معاناة يتيمة



بسم الله الرحمن الرحيم
                                                                         
بمناسبة اليوم العربي لليتيم 
                                                
معاناة يتيمة
 ( قصة واقعية )




توقفت حافلة دارا الرعاية امام بوابة المدرسة ..لتترجل منها مجموعة من الفتيات الصغيرات .. سرعان ما اختلطن بزميلاتهن داخل فناء المدرسة .. اتجهت ليلى وهي تجر خطوات مثقلة .. حتى انزوت بعيدا عن اعين الطالبات .. جلست القرفصاء ..وقد غيبت رأسها في حجرها .. واسلمت نفسها لهمومها والامها  .. واطلقت العنان لدموعها ..اقبلت اليها اعز صديقاتها بعد أن بحثت عنها هنا وهناك .. اقتربت منها .. حاولت جاهدة ان تعرف سر وجومها .. وسبب دموعها .. حاولت ان تساعدها بان تخفف من احزانها.. راجية منها ان ترفع رأسها الصغير قليلا .. 

وبعد الحاح وعناء رفعت ليلى رأسها .. وهي تحاول ان تداري دموعها التي رسمت على وجنتيها الناعمتين  خطوطا بالف معنى ومعنى .. حاولت صديقتها ان تعرف سبب انكسار صديقتها ليلى بكل ما تستطيع .. فهاهي تحوم حولها كفراشة حول زهرة جميلة .. تسائلها حينا .. وتجيب على نفسها احيانا .. هل تريدين ان اساعدك في شيء ؟ هل هناك مسألة في الواجب المنزلي لم تعرفيها ؟ تقول ذلك وهي على ثقة بان السبب شيء اخر .. فليلى طالبة متميزة  .. ولا يمكن ان يكون هذا هو ما احزنها .. 

أمسكت بيدها في محاولة للانتقال معها الى داخل الصف .. فلعلها هناك تفضفض لها عما يدور في داخلها .. نظرت ليلى الى  صديقتها منى.. والتي تحب دائما ان تناديها بكلمة اختي .. ثم ارتمت عليها باكية .. وهي تضمها بقوة لم تعهدها من قبل .. اخذت منى صديقتها..وأمسكتها بيدها وهي تمسح دموعًا قد تحدرت من اعين ليلى.. فما ان وصلت بها الى داخل الصف حتى اصرت عليها بان تخبرها بسر تلك الدموع ..فقد اصبحتا وحيدتين ..فلا خوف من ان يعرف احد شيئا . وهما لبعضهما كروحين في جسد .

التفتت ليلى الى اختها منى وقالت .. بانها لم تستطع الكتابة في واجب التعبير .. فقالت منى ولم هذا الحزن ؟ .. فالامر بسيط جدا ..  هيا افتحي كراسة التعبير .. فلا زال هناك متسع من الوقت ..وسأساعدك في الكتابة .. ازداد بكاء ليلى ونشيجها .. وقالت بصوت مخنوق متقطع ..وماذا عساي أن أكتب .. هل يصح مني أن أذكر اشياء لم اعرفها .. ولم اتذوقها في حياتي .. انتِ وبقية البنات لديكن ما تكتبن فيه .. اما انا فماذا أقول ؟! ..أأكذب على نفسي ؟!! ..أأكتب عن بر الوالدين ؟!!.. وانا لم اعرف ابي وامي .. أأكتب عن حقوقهم وقد اضاعوا حقوقي .. أادعو عليهم بسبب ظلمهم لي .. ام ادعو لهم وقد ألجأوني الى ما انا فيه من هم وكدر .. ماذا اكتب ؟!! 

ان الامر ليس في عدم مقدرتي على الكتابة ..ولكن مشكلتي تكمن في الشعور الذي احسه .. فكيف لي ان اكتب عن مشاعري التي تتناقض مع هذا الموضوع .. انتن كتبتن بصدق ..لانكن تعايشن حنان وعطف الوالدين .. وحق لكن ذلك .. اما انا فماذا افعل .. وماذا أقول .. وهنا استسلمت ليلى للبكاء مرة اخرى ..

حاولت منى ان تخفف عنها ولكن دون جدوى .. مما جعلها تكتفي بالانحناء عليها لتشاركها في احزانها والامها ولو ببعض الدموع  .. لم يقطع عنهما ذلك المشهد المؤثر ..سوى صوت إشارة بدء الاصطفاف الصباحي  ..همت ليلى ان تنهض لتلحق بزميلاتها في فناء المدرسة .. ولكن صديقتها اصرت على ان تبقى في مكانها.. وان لا تخرج الى الفناء ..فهي في حالة لاتستطيع معها ان تختلط بأحد .. فطمأنتها بأنها ستدبر الامر مع المعلمات بطريقتها ..

انطلقت منى بعد ان اغلقت الباب.. متوجهة الى معلمة التعبير  لتشرح لها الامر .. وترجو منها ان تراعي وضع  ليلى .. فهي في وضع لا تحتمل معه العتاب .. وحبذا ان لا تطلب منها واجب الدرس .. فهي لم تستطع الكتابة فيه .. كانت هذه هي الخطوط العريضة التي كانت منى تريد ايصالها للمعلمة .. ولكنها تتفاجأ بان معلمة المادة غائبة ذلك اليوم ..فتهللت اساريرها وسط استغراب المعلمات .. اذ ان هذه الحالة لا تأتي الا للطالبات المهملات .. ومنى لم تكن منهن ابدا .. ولم تفرح في يوم من الايام لغياب معلمة .. بل كانت تحب جميع المعلمات ..  

انطلقت منى فرحة  مسرورة لتخبر ليلى بان معلمة التعبير غائبة هذا اليوم .. لم تخف ليلى سرورها من هذا الخبر ..ولكنها لم تستطع ان تخفي معه مسحة الحزن التي كانت واضحة على وجهها .

توالت حصص اليوم الدراسي .. والصديقتان بل الاختان لا تكاد احداهما تنفك عن الاخرى ..تنطلقان هنا وهناك كفراشتين .. تلهوان في حديقة غناء .. تناولن افطارهن في مقصف المدرسة .. بعد ان توزعتا مهام الشراء فليلى عليها ان تصف في طابور المأكولات ..لتشتري لها ولاختها  .. وكذلك منى انتظمت في طابور المشروبات .. وبعد ان تناولتا افطارهما.. وحمدن الله على نعمته ..  نهضن ليكملن ما بقي من الفسحة في لهوهما البري .

انطلق صوت جرس المدرسة .. ليعلن انتهاء الفسحة وبدء الحصص الباقية .. والتي توالت واحدة بعد الاخرى ..وكأنها وقع أقدام ثقيلة على صدر ليلى النحيل  .. حتى إذا ما دخل وقت حصة التعبير .. أقبلت معلمة اخرى الى صف ليلى لتحل بدلا من معلمة المادة .. فهي معلمة جديدة على المدرسة ..لم تتسلم مهامها بعد ..ولم تتعرف على الطالبات وظروفهن .. 

وبما ان الحصة تعبير ..فلا حرج في ان تستمع الى الطالبات فيما كتبن .. فطلبت ان تستمع منهن اخر موضوع كتبن فيه ..فاسقط في يد منى قبل أختها .. فحاولت جاهدة ان تجد طريقة اخرى لاتمام الحصة .. فاقترحت ان تكون الحصة عن قصص عامة او طرف مسلية .. او أي شيء آخر غير ذلك الموضوع .. ولكن المعلمة أصرت على رأيها.. معللة ذلك بانها تريد ان تستمع الى اسلوب البنات في الكتابة ..فهي معلمة جديدة .. وتريد الوقوف على مستوى طالبات المدرسة ..فمادة التعبير عي المقياس الحقيقي لذلك .

طلبت أن تقف كل طالبة امام زميلاتها ..لتقرأ ما كتبت .. فبدأن واحدة بعد الأخرى .. يلقين ماكتبنه في موضوع قد غفلت معلمة المادة عند اختياره عن ليلى ..فقد كان عن حقوق الوالدين ووجوب برهم _ ورغم تفوق ليلى.. فهي فتاة يتيمة مجهولة النسب ..تعيش في أحد دور الرعاية _ هنا أيقنت ليلى أنه لا مناص من موقف كانت تتهرب منه ..وتخشى أن تقع فيه..

أمسكت بأناملها الضعيفة المرتجفة .. ذلك القلم الذي تحسه قطعة منها.. فهو أنيسها وجليسها عندما لا تجد من تلقي همومها واحزانها عليه .. فقد أطلقت له العنان ..ليرسم على ورقة كانت أمامها ما يجول في ذهنها ..وما تمخض عنه تفكيرها .. وما نطق به وجدانها .. فعندما جآء دورها .. قدمت الى المعلمة تلك الورقة ..التي تنطق بالالم والاسى..ورقة تحدثت نيابة عن لسان قد تلجمه الاحزان.. 

لقد رسمت سكينا تقطر الدماء من جنباتها .. سكينًاملقاة بين جسدي رجل وامرأة  ..وقد مزقت جسديهما الى اشلاء متناثرة ..كتبت عليهما بالدماء عبارة كانت أشد من الزلازل والبراكين  (أمي وأبي.. لو اعرفكما لقطعتكما إربا إربا ) عبارة اهتزت لها تلك المعلمة .. التي تفاجأت بتلك الورقة وبكل ماجاء فيها من تفاصيل قاسية ..إذ لاينبغي لمن هم في سن ليلى ان يحملوا معشار تلك القسوة .. 

فما كان منها الا ان ادنت إليها ليلى لتعاتبها  ..  ايعقل يا صغيرتي ان يكون هذا جزاء الوالدين ؟!!.. فكان ذهول تلك المعلمة أكثر ..عندما أجابتها ليلى بقولها نعم .. وهنا لم تترك ليلى للمعلمة ان تناقشها بهدوء ..بل قالت دعيني اتحدث كأخواتي .. فأنا طالبة أجيد التحدث أيضا ..  فلافرق بيني وبين  نجوى ومني ولا بين هالة وغادة ..

نعم ياأستاذة  فأنا أعني ما كتبت.. وأعني مارسمت ..وأعني ماقلت ..فأبي وأمي لم اعرفهما ابدا .. ولم تكتحل عيني بمشاهدتهما ابدا .. نشأت وترعرعت بين جدران بيت يقال عنه دار الرعاية .. لا اعرف حضنا سوى جدرانه التي اصبحت رغم عبوسها اكثر عاطفة علي من والدي ووالدتي ..الذين احرموني من اهم مايطلبه انسان في هذا الوجود  ..لقد حرمت من حنانهما ..حرمت من اللعب مع اخوتي واخواتي .. 

 قد تقولين ياأستاذة.. انني اتمتع في هذه الدار  بما حرم منه كثير من الأطفال الذين يعيشون بين أبويهم ووسط اسرهم وأقاربهم  ..نعم يا أستاذتي فلدينا من الرعاية ما يفوق الوصف ..ولكننا نفتقد اهم نعمة أنعم الله بها على الانسان ..وهو العيش بين احضان والديه ..  وفي كنف اسرة ترعاه .. واقارب يحبوه  .. ما قيمة أن أعيش في مجتمع سلبت فيه اغلى حقوقي ..

خذو مني أيها الناس كل هذه الرعاية والاهتمام ..بل خذو مني حياتي كلها واعطوني امًّا للحظة واحدة ..لارتمي على صدرها ..وأبثها ما اعانيه في وحدتي .. خذوا كل شيء واعطوني أمًّا اعاتبها عتاب المحب .. فقد افتقدتها في ليالٍ كثيرة ..

كنت في امس الحاجة لقربها.. فكم من ليلة مرت علي وانا اصرخ من شدة الالم .. لم اجد فيها انفاس امي بجواري ..لتناولني الدواء او لتتفقدني بالغطاء في ليالي الشتاء الباردة .. فوالله لايعرف النعمة الا من فقدها ..

اعطوني ابا أشعر معه بالعاطفة الابوية ..أبٌ يحسسني بخوفه علي .. حتى أشعر معه بالامان .. اعطوني أبا وأمّا ولكم مني ان أمرغ وجهي على أقدامكم ..وان أقبل التراب الذي تسيرون عليه .. ابعدوا عني شعورا مخيفا يطاردني ليل نهار .. فانا اسهر الليالي الطوال.. ولا انيس ولا جليس لي سوى ادمعي التي احرقت وجنتي .. 

فانا اتخيل اخوتي واخواتي ..وهم يلهون ويلعبون ..ويقيمون ويرتحلون .. وبسافرون ويتنزهون .. وينعمون بأحضان أبوين كنت سأنعم بها انا ايضا .. ولكني حرمت منها دونما ذنب اقترفته ..فلماذا حرمت من هذا الحق اذا ؟!!!..  فما ذنبي انا في كل هذا العناء الذي اعيشه .. نظرات الناس تقتلني  .. ففوق معاناتي من جهالة نسبي ..رزيت أيضا بجهالة مجتمع اعيش فيه ..اذ يحملني ذنبا لا ناقة لي فيه ولاجمل .. 

اين العدل؟؟ أين العدل ؟؟  أيعقل ان أسجن في هذه الحياة بذنب وفاعلوه الحقيقيون يسرحون ويمرحون !!!.. ليال كثيرة اسهر فيها واتخيل امي وهي تربي اولادها وتهتم بهم وتسهر على راحتهم .. اما انا فغدوت بالنسبة لها زلة وخطيئة .. كلما تذكرتني لجأت الى الاستغفار.. دون ان تحمل همي ..أو تسأل عن مصيري .. قد تناست تسعة أشهر شاركتها فيها لقمة الغذاء وجرعة الماء حتى أصبحت قطعة منها .. 

اما ابي فكأني به بين اولاده ..يقبل هذا ويضم هذه .. ويعطي هذا وينتصر لهذه ..ويضحك لهذا ويمازح هذه .. وما يدري انني اسهر الليالي .. واعاني الغربة القاتلة . 
إشتد بكاء ليلى وانفعالها ..ثم التفتت الى المعلمة .. واخذت تصرخ بصوت متقطع مبحوح ..اين العدل يا استاذة  في هذه الدنيا ..نعم اين العدالة في دنيا تضم احدنا حتى يشعر بالراحة والامان .. في وقت تقسو فيه على الاخر حتى  تذيقه اصنافا من الهوان ..تتجاوز حدود احتماله .

ان العدل ياأستاذتي سيكون هناك ..عند رب عادل .. فقد رضيت بقسمتي  في هذه الدنيا ..وبما يدبره لي ربي جل جلاله .

عادت ليلى الى مقعدها وكأنها تجر جبلا من الهموم ..فكيف بها تقوى على حملٍ يعجز عنه اشداء الرجال ..جلست عى طرف مقعدها بجسمها النحيل.. الذي قد هده الحزن والأسى .. استأذنت منى من المعلمة لتجلس بجوار اختها .. لتواسيها وتخفف عنها .. لم تحتمل تل المعلمة ذلك المنظر.. وتلك الشهقات الحرى .. التي خرجت من ذلك الصدر الصغير .. فقامت الى تلك الطفلة .. لتمسح رأسها .. وتضمها بحنان الام .. وتتأسف لها عن هذا الموقف .. ورغم محاولتها اخفاء مشاعرها.. الا انها لم تستطع كبح جماح دموعها .. فانهمرت كسيل جارف .. 

خرجت من الصف سريعا لتكمل نشيجها بعيدا عن اعين أولائك الصغيرات .. وفي طريق عودتها لمنزلها لم تتوقف عن البكاء .. وسط ذهول زوجها الذي ظن ان الامر لايعدو ان تكون هذه المدرسة لم تناسب زوجته منذ اليوم الاول  ..  ولكنها تفاجئيه بأن أسمعته قصة ليلى المؤثرة .. اضطر معها أن يتوقف عن السير ليمسح دمعة سقطت من عينه .




TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript