رحيل الأعلام يشحذ الأقلام



 بسم الله الرحمن الرحيم
                                                                
بالأمس لم تكن فكرة الكتابة عن هذا العلم حاضرة ، ولكن بعد ان قرأت ماكتب عنه رحمه الله لم أجد سوى كلاما عاما يشكر كل من كتبه ، فوجدت من حقه علي ( استاذا ومربيا وجارا) أن اكتب ما غاب عن الكثيرين من صفاته والتي قد لا يعرفها الكثير من الناس حتى المقربين منه  . 

        ومات أول جامعي في منطقة الباحة 

هكذا علمت بأنه أول من حصل على الشهادة الجامعية من أبناء منطقة الباحة والله أعلم ، ومهما يكن فلم تضف تلك الشهادة لشيخنا وأستاذنا عبدالله بن يحيى بن عبدالرحيم رحمه الله شيئا ، فهي لم تكن لتعني له أكثر من أنها إضافة علمية عملية لا إضافة شرفية أكاديمية .

الشيخ الجليل والأستاذ الفاضل عبدالله بن يحيى أول مدير لمتوسطة الأطاولة وثانويتها ، لم أكن لأتذكر قدومه رحمه الله إلى الأطاولة ، فقد كنت وقتها طفلا صغيرا ، فإن لم أكن حينذاك في المرحلة الإبتدائية فإنني لم أدخل المدرسة بعد ، 


 اعلم أنه تنقل في عدد من البيوت داخل الأطاولة كسكن له ولعائلته ، فمن بيت غرسان بن مساعد إلى بيت عبدالعزيز بن عبيدي إلى بيت سعد الحاني رحمهم الله جميعا ، إلى بيت الأخ سعدي بن تركي ،


كان له مع طلابه رحمه الله مواقف وحكايات ، فقد كان محبا للنشاط المدرسي ، مؤمنا بأن التربية والتعليم قد تأتي بطرق أخرى قد تكون محببة للطالب أكثر من الكتاب والدفتر وحتى القلم ، فحرص على ان يكون النشاط المدرسي من أولوياته و بالذات  الإذاعة المدرسية والتي لم تك كما هو الحال الان من خلال الاصطفاف الصباحي ، بل كانت تبث برامجها من غرفة خاصة بجوار مكتبه .

 كان يتلمس أصحاب الأصوات الندية والطلاب المتميزين فيكلفهم بإدارة وتشغيل الإذاعة تشجيعا لهم ، وكان يراجع معهم ما سيقرأونه فيها ، كان يدقق أيضا في الصحف الحائطية ويصحح ما فيها من أخطاء قبل تعليقها على جدران المدرسة . 



لم يقتصر في ابوته وعاطفته لطلابه بما يجري داخل مدرسته فقط ، بل كان لهم أبا عطوفا حتى خارج أسوار المدرسة .

اذكر مرة بعد انصرافنا ، مر على تجمع للطلاب كانوا متحلقين حول زميلين يتخاصمان في قلم ، كل واحد يدعي أنه له ، فما كان منه رحمه الله إلا أن أخرج قلمه من جيبه ثم أعطاه لأحدهما .

لم ينته الموقف هنا ، فقد آتى الموقف ثماره حالا ، اعترف أحدهما مقابل هذا الموقف النبيل بأن القلم لصاحبه ، ثم شكر الشيخ لكرمه وأبوته وأعاد إليه قلمه ، ولكن الشيخ لم يكن ليرجع في هبته ، بل ترك القلم هدية له ، انفض الجمع بعد ذلك على درس تربوي رائع ، قد خرج من قلب أبٍ وليس من كتاب . 

وفي المساء غالبا يكون له معنا كطلاب وكجيران بصمة لا تنسى ، فقد كنا نلعب الكرة أمامه ، وكان يدعونا أحيانا وهو جالس في ظل بيته أن نجلس معه وهو يقرأ القران من مصحفه ، أو يقرأ من كتاب فقهي أو كتاب سيرة ، ويقدم لنا بعد تعب اللعب الماء و الشاي والبسكوت ، لم يكن ليضايقنا رحمه الله  رغم مضايقتنا له بلعبنا امام منزله واثناء انشغالة بكتبه .



هكذا كان رحمه الله مع طلابه داخل مدرسته وخارجها ، وكما كانت له هذه الوقفات معهم فله وقفات حتى مع معلمي وزوار مدرسته من متدربين ومدربين .

 فقد كان أحد معلمي المدرسة قبل خمسين عاما على غير المنهج العقدي الصحيح فبذل له الجهد حتى هداه الله على يده ، فاكرمه بمناسبة كبيرة وعجيبة ، سأتحدث عنها ان شاء الله قبل نهاية المقال .

وهناك مواقف عجيبة أخرى لو لم أعشها بنفسي وحدثت أمامي لما صدقتها ، فقد كان رحمه الله قناصا للفرص ، حتى مع زوار المدرسة ، لم يهمل فرصة يعرف أنها ستفيد زائره قبل أن تفيده هو إلا اقتنصها . 

لم يقل هولاء ضيوف وماهي إلا دقائق أو ساعات أو حتى أيام ثم يرحلوا ، بل كان معلما ومربيا للجميع .

اذكر وقد كنا مجموعة من المعلمين في دورة مسائية في اللغة العربية وكان مقرها ثانوية الأطاولة ، وكان إذا تأخر المحاضرون ـ لأنهم يأتون من أماكن بعيدة ـ يدخل علينا مستغلا الوقت ليناقشنا في اللغة وأسرارها وعجائبها .

لم أنس حين قال لنا ذات مرة : هناك كلمة دارجة على السنتنا وهي كلمة (عزي) وضرب مثالا بقوله : فلان جلس عز فلان بمعنى قرب او بجانب فلان ، ثم سألنا : اترون أنها فصيحة ؟ ، ثم استشهد بقوله تعالى : "عن اليمين وعن الشمال عزين" ، أي جلوس على يمينه وشماله .



هذه اللفتة الجميلة منه رحمه الله أوحت لي بفكرة تاليف كتاب في هذا الفن ، ولكن للأسف لا زال يقبع في زوايا الذهن  منذ ذلك الوقت .

ومع هذا الكرم واللطف فانه لا يجامل احدا عند الخطأ مهما كان ، حتى وإن كان زائرا أو مسئولا له قدره ومقامه ، فذات يوم ونحن في مكتبه وكان المحاضرون معنا ، أحدهم وهو سوري يحمل درجة الدكتوراة وكان مهابا لشهادته العلمية حتى من زملائه في إدارة التعليم ، فقد كانت هذه الدرجة نادرة ذلك الوقت ، اشعل الرجل سيجارته وراح ينفث دخانها في جو المكان ، فقال له الشيخ مباشرة : يادكتور هذا مكان تربوي لا يجوز ولا يسمح بالتدخين فيه ، رد أحد المحاضرين : خلاص ياشيخ عبدالله الرجل لم يعلم فاعذره  .

نظر الشيخ إليه ، ثم بلهجة حادة قال : دعونا من الحكم الشرعي والأدبي والإجتماعي والتربوي ، ولكن لم ترسلون تعاميمكم بمنع الدخان في المدارس ثم تخرقونها بأيديكم ؟! ، لا والله لن يكملها هنا ولا في حرم المدرسة كله ، مما اضطر الدكتور لإطفاء سيجارته فورا .



هكذا كان مع زواره سواء متدربين او مدربين او مسئولين ، يعلم ويربي ويوجه وقبل ذلك يحتفي بهم  .

لم يقتصر في تربيته وكرمه على مابين جدران مدرسته ، بل كان للمجتمع المحيط به نصيب ، يخبرني أبي رحمه الله بحكم عمله مع الشيخ في مدرسته وجيرته ايضا  ، أنه عمل حفلا في بيته دعى اليه المعلمين والأهالي بمناسبة هداية أحد المعلمين على يديه ، وكانت بطريقة حديثة اشبه بالبوفيه المفتوح حاليا ، وكانت عملا مدهشا لجميع من حضر ، سبق بها زمانه واثبت ان المتدين الحقيقي غير منغلق بل منفتح لكل ماهو جديد ومحبب حتى وان لم يألفه الناس طالما انه مباح .


فكانت تلك المناسبة الجميلة درسا أخر قدمه رحمه الله للجميع ، فإن تقدم لضيفك ما تعتقد أنه يناسبه خير من أن تحصره برغبتك أنت .

هكذا كان رحمه الله ، أبا كريما عطوفا ، ومعلما مربيا ، وجارا امينا صادقا ناصحا  محبا للخير  ، فهو تاريخ من العلم والتربية والفقه والأدب .


هذا ما التقطته من أطراف الذاكرة بما علمته عنه رحمه الله كواحد من طلابه وجيرانه ، فكيف بما علق بأذهان طلابه وزملائه على مدى عقود من الزمن .

رحمه الله وعفا عنه وأكرم نزله ، فكم من أناس نهلوا من هذا المربي الفاضل والشيخ الوقور ، جعلها الله في موازين أعماله .

علي بن سعد الزهراني 
مكة المكرمة في 1441/1/19هـ

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript