بيت خالي ليس خالي
ونحن صغار كان هناك سوالا على هيئة لغز يحرك به اباؤنا اذهاننا إذ يقولون : بيت عمي ، بيت جدي ، بيت خالي . وهناك نمر مفترس يجب ادخالة لاحد هذه البيوت مع ضمان السلامة لاهل البيت الذي سيدخله ، فاي البيوت ستختار له ؟
تذكرت هذا اللغز عندما رأيت قبل قليل مقطعا في جوال زوجتي ارسلته لها ام خالد ابنة خالي سعد رحمه الله وهي تتجول داخل بيت اهلها في مكة ، فلا ادري هل نشكر ام خالد اذ ذكرتنا بوالديها لندعو لهم ، ام نقول لها سامحك الله اذ اثرتي فينا لواعج البعد والفقد والحرمان ؟!
انه مشهد يستثير مكامن الحزن ، فكأن الاحبة فيه لم يرحلوا ، فكل شيء مكانه ، وكأن كل زاوية وكل قطعة اثاث وكل موطئ قدم يسألها ، بل لكاني بكل شيء يبكي طول الهجر وبعد الأنيس .
فبعض المقتنيات وحتى جدران المكان وابوابه ونوافذه لا تعلم بان هناك ما يسمى الموت ، يفرق بين اصحاب البيت واثارهم بل واحبابهم .
قد يكون المكان لحظة دخول ام خالد جمع قواه ومداركه ثم رمى بصره وبصيرته ناحية الباب مبتسما مبتهجا مسرورا ، وكأني بكل قطعة قد فزت من مكانها وقامت لاستقبال من دخل ، وكأني بتلك الاشياء وهي تتعلق بأطراف زائرتهم ، يسالونها عن أرواح وأجساد كانت ذات زمان هنا ، عاشوا معها سنوات وسنوات ، فغادروا المكان دون استئذان أو وداع .
امطروها باسئلتهم الحارقة والتي كانما تخرج من افواه البنادق : هل رأيتيهم ؟ هل لديك خبر عنهم ؟ هل وهل وهل .. وقبل ان تجلس اصروا ان يتنقلوا بها في ارجاء البيت وكانهم يذكرونها بماض سلف وفات :
هنا كانت أمك تصلي ، وهنا كانت تعد لأبيك طعامه وشرابه ، وهنا كانت تسهر على راحته ، وهنا كانت تستقبلك واختك ، وهناك كانت تسعد بزيارة اخوتك ، اما تلك الزاوية في مجلس أبيك فكان يستقبل فيها زائريه وضيوفه واحبابه ، وفي فضاء هذا المكان لو انك استنطقتيه لنطق ، ولأعاد إليك تلك الحكايات والطرف والقفشات اللاذعة المحببة للنفس غضة طريه ، والتي خرجت في لحظات أنس ومحبة من فم أبيك ، وهنا مكان سريره الذي لازمه في مرضه وأصبح كانه نديمه الخاص .
هكذا كانوا وكنا ، نرعاهم ويرعونا ، الى ان فقدناهم ذات ايام ، خرج أبوك محمولا على الأعناق من نفس الباب الذي دخلتي علينا منه ، وكذلك أمك فعلت ، فليت شعرنا إلى أين ذهبوا ؟ ولمن تركونا ؟ ليس هذا اعتراضا على أسباب غيابهم ، فهذا من قضاء الله وقدره ، ولكن ايحسبون أنه لا إحساس لدينا ولا مشاعر ! لقد أحببناهم يا أم خالد حبا لو يجسم لملأ آفاق مكة كلها ، فلماذا لم يخبرونا قبل خروجهم أن لاعودة لهم ؟! لماذا لم يقولوا لنا لنلحق بهم أو لنهجر المكان الذي يجرعنا كل يوم مرارة الفراق ولوعة الوداع ، فالمكان لم يعد يسعنا ، ونحن لم نعد نطيقه دونهما .
اخذها أحدهم وفتح لها نافذة المجلس وقال لها : انظري هذا مسجد الحي الذي كان يستقبل اباك كل يوم خمس مرات ، وكنت افرح كثيرا عندنا اراه يمشي لمسجده كفيفا يتوكأ على عصاه ، وأمك كانت تقف هنا ، في مكاننا ترقب خطواته حتى يغيب عن نظرها داخل المسجد ، فتذهب لبعص حاجتها ثم تعود لذات المكان تنتظر عودته .
كنت ابتسم فرحا من بشرى الله له ولامثاله ، فقد وعدهم الله بالنور التام يوم القيامة ، فظلمة الليل ان ازيلت بالكهرباء فان ظلمة البصر سيزيلها عفو الله وكرمه بنور تام يوم القيامة .
وماهي الا لحظات حتى انهمرت الدموع من عيني الزائرة ، فاحتضنها المكان ليخفف من لوعتها وحزنها فالمكان ليس جامدا لا يشعر ، ففيه بقايا أرواح أم وأب كانا لاولادهما كالدواء والهواء والغذاء .
اقترب منها كل شي ، وأحاطوها كالسوار بالمعصم وكالعقد على الجيد يسألونها لم هذه الدموع ؟! ، اتعلمين شيئا لم نعلمه ؟ اتخفين خبرا عن احبتنا الذين غادونا ولم يعودوا الينا ؟ اخبرينا بالله عليك ، هل حدث لهما مكروه ؟
تمتمت وقالت والعبرة تكاد تخنقها : رحمهم الله ، ومعذرة ايها المكان ، فقد انشغلنا بحزننا عنك ، ولم نعزيك وأنت اكثرنا التصاقا بهم .
همت بالخروج فتمسكوا بها ولم يفلتوها ففيها رائحة من احبابهم ، ولكنها قبل أن تفتح الباب وتخرج ، نظرت اليهم وقالت : اعلم ايها المكان انك ذو مشاعر ، فليس كل جماد جامد ، فبعد أن حن جذع النخلة لحبيبه وحبيبنا صلى الله عليه وسلم ، لم نعد ننكر منكم حتى الدموع والشهقات ، ولكنها سنة الحياة فأستودعكم الله .
اقفلت الباب وفي عينيها بقايا دموع سارعت لمسحها حتى لا تزيدهم حزنا على حزن .
علي بن سعد الزهراني
مكة المكرمة
1441/3/26هـ
شكرا أبا عبدالله . فلا زال والدي ووالدتي امام ناظري اراهم بين حين إلى آخر . واتذكر حركتهما في كل موقع انت ذكرته رحمهما الله وغفر لهما ووالديكم وجميع المسلمين وجمعنا بهم في جنات النعيم .
ردحذفرحمهما الله رحمة واسعه رحم الله ابو صالح الصابر الشاكر
ردحذف