أُنْس أَنَس
بسمة على شاطئ الأحزان
أنس هو ابن ابنة أختي والذي فقد اباه في حادث مروري
بسم الله الرحمن الرحيم
أنس وما أدراك ما أنس ، ولأن لكل من اسمه نصيب فما أظن ان أنس سمي بهذا الا لتأنس به القلوب ، فسمته يجبرك أن تفتح له أبواب قلبك وتشرع له مصاريع روحك ، لاتستطيع أن تمل الحديث مع أنس أو أن تميل بوجهك عنه ، فأنس رجل لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره ، فهو من القليل الذين سبق عمرهم العقلي عمرهم الزمني .
هناك في المقبرة ، وفي لحظة انتظار ، لمحت أنس من قرب ، فرأيت دموعا تتحدر دون استئذان ، تجري بحرقة وغزارة قد الهبت وجنتيه ، اقتربت من أنس ، احتضنته ، مسحت على رأسه ، قبلته ، في محاولة للتخفيف عنه ، فالموقف عليه عصيب لا يطيقه الرجال فكيف بمن هو في عمر أنس ، لا يلام مثله ، فقد حق له الحزن والبكاء ، فبعد قليل سيصل والده رحمه الله محمولا ليوارى الثرى ، وسيلقي أنس اليه النظرة الأخيرة .
لم يحتمل ذلك القلب الرقيق مراسم الدفن ، فانزوى بعيدا ، ثم حمل إلى البيت وقد أرهقه المشهد وأعجزه الحدث .
في المساء وفي موقع العزاء ، أقبل أنس بوجه غير الذي كان عليه في منتصف النهار ، فما الذي حدث ؟ وما الذي أعاد لأنس ابتسامته وحيويته خلال ساعات .
اقبل إلي والإبتسامة تعلو محياه ، جلس بجواري ودار بيننا الحوار التالي :
جدو
نعم حبيبي
أنت رحت معهم المغسلة ؟
كم كنت أتمنى أن أتولى بنفسي غسل والدك أو المشاركة فيه ، ولكن منعني من ذلك المرض
بشروني أن أبوي مبتسم ،
الحمد لله حبيبي ، فأبوك من أهل البر وأهل الخير ، فلا خوف عليه إن شاء الله ، فمن كانت ابتسامته تعلو محياه في حياته ، لن تخذله عند مماته .
الحمد لله ياجدي ، تدري أن ابوي مات وما فيه أحد زعلان عليه ؟! ، حتى العمال يحبونه ( أِشار لأحد العمال كان يقطع الساحة أمامنا ) هذا صاحب ابويه لما افتقده جاء البيت يسالنا عنه ويقول ابوكم صديقي .
سرحت بفكري قليلا أتامل جمال لغة الأبناء حين يكون الحديث عن ابائهم ، فكم تحمل من نبرات الصدق والإعتزاز والفخر .
هنا قطع أنس عليّ صمتي وقال :
والله ياجدي لما بشروني أن ابوي مبتسم إني حسيت إنه حي ما مات وفرحت كثير .
نهض أنس وغادر لمكان آخر ليس ببعيد عني ، ليقف بين أقرانه يوزع لهم ابتساماته الهادئة المريحة ، والتي تخفي خلفها سحاب مركوم من الحزن والألم ، في حين انشغلت عنه بدمعتين ندتا من محجريهما عنوة فلم أستطع السيطرة عليهما .
لست وحدك يا أنس من لديه هذا الشعور ، فكلنا نعلم ذلك ، الا ترى سر اسم أبيك ؟! أتعلم أن الحبيب صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل بالأسماء ، لا أقصد بـ خالد الخلود الحسي ولكنه الخلود المعنوي ، فمن دفناه قبل ساعات يا أنس لم يكن كل أبيك ، وإنما كان جزءا يسيرا منه ، فإسمه وسيرته وخصاله الجميلة باقية لم ترحل حتى وإن كانت مؤنسته في قبرة ، فوالدك لايزال حي بيننا بذكره الطيب ، وسيبقى شامة في جبين الحياة بمواقفه السامية وبره النادر ومحبته للناس ومحبة الناس له .
(أبوخالد ـ أم خالد ـ أم وليد ـ وليد ـ أنس ـ دانه ـ يزن )
أعلم أن المكلومين في خالد رحمه الله كثير وأنا واحد منهم ، ولكنكم بالذات أكثر من اكتوى بنار الحزن على فراق أبي الوليد ، فلا تحسبوه شر لكم بل هو خير ، فيقيني برحمة الله التي أرسلها لكم في ثنايا هذا الحدث الجلل يقين ثابت ثبوت الرواسي ،
فرحيل خالد في وقت أنتم أشد ماتكونوا حاجة له ، لم يكن إلا لحكمة أرادها الله تعالى ، فما كان ذهاب خالد لمكان لم يكن ضروريا في تلك الساعة الا ليكون سببا لتنفيذ قدر الله ، مع ان الأسباب لا تغير في مواعيد الأقدار ، فلو أن خالدا لم يكن في المستشفى وكان في بيته يرفل في أثواب الصحة والعافية ، متكئا على أريكته بين أفراد أسرته ، لاقتحم الموت عليه مجلسه في اللحظة ذاتها ، وانتزعه من بين أحبابه وهم ينظرون .
ثقوا بأن الله يحبكم ، وأنه رحيم بكم ، وأنه يريد بهذا الأمر أن يثبت لكم أن من نزع خالد من بينكم رغم تعلقكم به قادر على أن يصنع لكم ألف خالد ، تقول أم سلمة رضي الله عنها : كنت أقول بعد موت أبي سلمة : اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها ، وأقول في نفسي ومن خير من أبي سلمة ؟! فعوضها الله بأكرم زوج عرفته البشرية ، فكانت بعد ذلك زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما للمؤمنين ، فأي شرف بعد هذا نالته أم سلمة .
همسة لأم وليد
في جلستي الأخيرة معك عرفت كم أنتِ عظيمة ، عرفت كم هن الأمهات رائعات ، ولكن عرفت أنك الأروع ، عرفت سر ذلك الشعور الذي رأيت فيه أنس ، وتلك الإبتسامة على وجهه بعد أن كاد يهلك حزنا على أبيه ، وعرفت سر رباطة جأش أخيه وليد الذي عايش كل مراحل الحدث بصبر وثبات وتحمل مسئولية ، وعرفت سر المحبة لك من كل من عاش و يعيش حولك ، عرفت وتيقنت ان للأسماء دلالة لا تخفى ، فالمتأمل في اسمك واسم خالد سيعلم مدى الروعة والجمال التي كانت وستضل بمشيئة الله تعيشها أسرتكم المباركة .
اعجبني تثبيتك بعون الله لأولادك ، بقولك لهم : أن كل حسنة تعملونها سيذهب لأبيكم مثلها كهدية منكم وان كانت في الواقع حسنة مستحقة له ، فعمل الاولاد امتداد لعمل أبيهم ، فأكثروا له من هدايا الحسنات ، وقولك لهم أننا سنلحق به كل واحد بحسب أجله ، وسنجده أمامنا يستقبلنا في القصر الذي بناه بأعماله الطيبة ، وسيواصل بناءه بما نرسله من حسنات وأعمال صالحة ، وعمل ماكان يحب ان يراه فينا ، كالمحافظة على الصلاة ، ومحبة الناس ، والتفوق الدراسي .
عرفت بعد ذلك وتيقنت ، بل وأطمأننت أنك ستقودين المركب إلى بر الأمان رغم أمواج البحر العاتية ، وعواصفه الهوجاء ، واهواله المخيفة ، والتي لا تخفى في هذا الزمن ، ومع هذا فإني بما اعرفه عنك باعتمادك على الله أقسم غير حانث أنك أهل لتلك المهمة الصعبة ، فقط استعيني بالله ولا تيأسي وتفآءلي بمستقبل مشرق وأنطلقي ، ولن يخزيك الله ابدا .
علي بن سعد الزهراني
مكة المكرمة 7/4/1439
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق