قتيل البر


بسم الله الرحمن الرحيم
                                                             
( قتيل البر )
                                                  

مقدمة

انتظر عودة ابنه كثيرا ، سأل عنه أكثر وأكثر ، ولما لم يعد ، ولم يجد لسؤاله جوابا ، غاب عن كل الذين حوله ، فلربما يراه في غيبوبته.*
...............................................



*ومن البر ما قتل*

قالوا قديما : "ومن الحب ماقتل" ، فإن كان الحب يقتل المحب مرة ، فإن البر يقتل المحبوب ألف مرة ، فمن طبع النفس البشرية أنها تميل إلى من يقدرها ويهتم بها ، حتى وإن كان ذلك من أباعد الناس ، فكيف بمن هو فلذة من كبد ، وشذرة من فؤاد ، وقطعة من روح ، قد نذرحياته بكل مافيها كجناح ذل خفضه لمحبوبه رحمة به .

عندما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه شكوى أبي كلاب أمية بن أسكر الكناني في بعد ابنه عنه بسبب الجهاد ، أرسل في طلبه ليبقى عند والديه رحمة بهما وبرا لهما ، فقد بلغ من قصة بره لأبيه ما أبكى عمرا ومن معه ، فقد رأى بأم عينه من البر مالا يصدقه عقل ولا يستوعبه نقل .

بالأمس القريب شيعنا في مكة المكرمة أمية آخر ، إنه حبيبنا الغالي محمد بن أحمد بن غازي رحمه الله ، ودعناه ونحن نعلم أن لله تصريف محكم لا نعرف كنهه ، ففي الحقيقة لم يمت ابا خالد فجر الأربعاء ، بل مات قبل عام ونصف ، فقد مات بموت ابنه خالد رحمهم الله وأموات المسلمين ، فهو لم يستوعب غيابه ولا أن يصبر عنه لحظة واحدة ، فلم يك خالد إلا روح أبيه التي غادرت جسده منذ ذلك اليوم .

إنه حزن الوالد الذي لم نشهد له في واقعنا مثيل ، ولنا أن نتسآل : لم كل هذا الحزن وهذا الذهول في فقد ولد ؟! ، وكل يوم يفقد الاف الأباء الاف الأبناء دون أن يكون لهم هذا الأثر الجارف والجرح النازف . مع أنه لا يلام أي أب في حزنه على ولده ، فلا يفري الكبد كفقد الولد .

إن خالد رحمه الله لم يغب عن ناظري أبيه وأمه لحظة ، اللهم إلا في أوقات راحتهم وأوقات عمله ، ولو استطاع لجعل من مواطئ أقدامهما مهادا لنومه ومتكأ لراحته كي لا يبتعد عنهما ، ولكنها سنة الحياة .

فخالد لم يقاطع مناسبات أحبابه ومحافلهم زهدا في مؤانسة صديق أو صلة رحم ، أو حتى جبرا للخواطر ، فهو يعتقد أن لقمة يضعها في فم أمه وأبيه خير من الدنيا وما فيها .

ومع كل هذا العطاء والسخاء من خالد فإنه لم يكن بدعا من إخوته ، فهم في برهم بأبويهم لم يكونوا اقل منه شأنا ، ولكن ظروف عملهم وبعد مسكنهم قد اتاحا لخالد السبق لالتصاقه بهما أكثر الوقت ، وما وقفتهم مع ابيهم وامهم واسرة اخيهم بعد موته إلا أكبر دليل على برهم الفريد .

وكما أن خالدا لم يكن بدعا من اخوته فانه ايضا لم يكن بدعا من الرجال ، فخالد لديه الزوجة التي تتطلب منه الإهتمام كغيرها ، ولديه ابناء هم في أشد الحاجة إلى توجيهه ورعايته ، وله البنت الوحيدة وما أدراك ما البنت الوحيدة ، فالبنات هن ثمرات قلوب الأباء وجنتها ، فكيف بها إن كانت واحدة ، تسعده بسمتها ، وتسمو به فرحتها ، وتكدره دمعتها . فهو لم يهمل أسرته الصغيرة يوما بل كان لهم نعم الأب ، ولكنه رغم اهتمامه بهم قد استودعهم عند من أوصاه بوالديه ، 

خالد لم يكن ليغادر مجلس والديه إلا إذا حان وقت راحتهما ، فخالد لم يكن إلا بسمة رسمت على شفاههما ،  وسعادة لم تكن تتوارى عن محياهما ، لاعجب في هذا وذاك ، فمختصر القول أن خالدا كان لهما جنة الله في ارضه . 

غاب خالد وغابت معه بسمة أبيه ، وغابت معه كل بهجة ومتعة كنا نراها تزين طلعته ،  فمنذ غيابه لا يرى ذلك الشيخ الا شارد الذهن سارح الفكر ، وإن انتبه قليلا سأل عن خالد : أين هو ؟ ، لماذا لم يعد الى الان ؟ ، اما ترون انه تاخر ! ، انتم تكذبون عليّ ،  لماذا هو مسافر ؟ ، ولم لم يخبرني ؟! ، ولماذا لم يكلمني ولو بالهاتف ؟ ، اريد ان اسمع صوته فقط  .

لا لوم عليك يا أبا خالد فيما ذهبت إليه ، فمن يعرفك ويعرف بر ابنك بك سيخلق لك الف عذر وعذر ، لا عجب فأنت لم تستوعب أبدا خبر موته رغم مرور الوقت ، اذ كيف بك تستطيع ذلك وأيادي خالد لازالت خالدة في ذاكرتك ، فأنى التفت لاترى إلا خالد وأنى مشيت لا تلاقي إلا خالد ، لا ملام عليك ، ففي كل زاوية وكل خطوة وفي كل لحظة بصمة لخالد ، بل حتى أنفاس خالد لم تزل سارحة سابحة في فضاء البيت ، فكلما تنفست ووالدته هواءا تجسد لكما خالد  بكل تفاصيله .

لكأني بك أيها الشيخ الوقور وأنت تعيش لحظة يأس تقول لمن حولك وتجهر في أذن الزمان : خالد لم يعد ولم تشفني اجاباتكم المرتجفة ، ولم تقنعني اخباركم الواهيه ، فساذهب للبحث عنه بنفسي فلربما وجدته أو وجدت عنه خبرا ، فلا طعم لحياة غاب عنها خالد .

نعم أبا خالد ها أنت ذهبت عنا في رحلة غياب قاربت المئة يوم ، غبت عنا لتبحث بنفسك دون مساعدة من أحد فلم نستطع جميعنا أن نشبع نهمتك في الإجابة عن سؤالك ، فما كنت تسأل عنه ولا جواب ، هانحن نسألك عن حالك ولا جواب ، ندري أنك بين يدي رحيم رحمن ، هو بحالك أعلم وأرحم  ، نحضر ولا تبش ، ونذهب ولا تهتم ، ونتحدث ولا تسمع ،  فهل التقيت خالد فاكتفيت به عنا ، وهل اطعمك واسقاك بيده كعادته ، وهل رعاك ببصره وبصيرته ، وهل امسك بيدك بلمسته المعهودة الحانيه ، وهل احتضنك في صدره الدافئ ليخفف عنك لوعة البعد والفراق  ، وهل مسح بانامله الرقيقة تلك الدمعات الخرساء المتساقطة على وجنتيك ، وهل ترك من اجلك كل اشغاله واهتماماته وواجباته احتفاء برؤيتك ؟ 

 لم تجبنا يا اباخالد ، ولكننا نعذرك فطالما ابتعدنا عن اسئلتك الصعبة وابعدناها عن اذاننا واذهاننا ، وبخلنا عن اجابتك برغبتنا ، ليس لشي ولكن رحمة بحالك ، فما أنت فيه من حزن أعظم من ان نزيده عليك . 

نعلم جيدا بأن الله ـ عندما قرن الإحسان للوالدين بتوحيده سبحانة ـ  لن يترك برا كهذا الذي رعاك ورعيته يمر مرور سحابة الصيف ، بل نحن على ثقه في رحمته ، فأنت الان رغم ضعفك وشيبتك تقدم على كريم سيكرمك ويفرحك بما يذهلك ، وسيكون خالدا إن شاء الله أول مستقبليك ، وستراه واقفا مبتسما بين أمك وأبيك ، فاي احتفاء كهذا الإحتفاء ، وماذلك على الله بعزيز ،  يقول تعالى :" والذين امنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الحقنا بهم ذريتهم " ، فما أجملها من معية وما أروعها من احتفالية ،


* حلم
استيقظت احدى بناته فجرا على وقع حلم ، رأت انها تتحدث الى ابيها الذي طمأنها انه بخير وانه خارج الان من المستشفى ، وهذا ماحدث فقد خرجت روحه الى بارئها في اللحظة نفسها .

* قدر لا صدفة !
دخول خالد المستشفى يوم الثلاثاء 23 
دخول أبيه المستشفى يوم الثلاثاء 23 
وفاة خالد يوم 3
وفاة أبيه يوم 3

رحم الله ابا خالد وخالد ورحم أموات المسلمين 

              علي بن سعد الزهراني 
                مكة المكرمة 1440/9/5هـ

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript