بقية من قلب عزة


بسم الله الرحمن الرحيم
                                                           

( بقية من قلب عزة )

                                                              
انزويا بمكان بعيد عن الأنظار ، تحدثا قليلا ، بدت عليهما علامات الحزن والحيرة ثم انطلقا لبيتها القريب من المكان ليخبراها بأصعب وأقسى خبر قد ينزل بساحة أم ، 
فقد سافر ابنها الصغير ذو العشرة أعوام للعلاج بعيدًا عنها ، فمات ودفن دون أن تحتضنه أو أن تلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة ، فلله ذلك القلب ، كيف به وقد تصدع من هول الخبر ، فقد كان من الصعب عليها مرافقته ، فالظروف المحيطة بها في ذلك الوقت صعبة جدًا ، فزوجها قد مات منذ زمن ، وابنها الآخر لا يزال صغيرًا ويحتاج للرعاية أيضا ، فكيف ومن هذا حاله يستطيع أن يوفق بين الأمرين .



ظروف صعبة قل من يتجاوزها ، ولكنها كانت على قدر الحدث ، فرضيت بماقدره الله لها وانشرحت بذلك نفسها ، فاللطف في الأقدار منحةٌ ورزقٌ يبعثه الله في ثنايا أقداره المؤلمة ، لم تزدها قسوة الحياة مع مرور الأيام والأشهر والسنوات إلا دماثة في خلقها ، وابتسامة لا تكاد تفارق محياها ، ورجاحة في تصرفها وتسييرها لحياتها ورعاية ابنها بما يعجز عنها كثير من الرجال .


عاشت بين جيرانها أمًا وأختًا وابنة ، فهي ابنة لكبار الحارة وأختًا لمن كان في سنها ، وأما لشبابهم وأطفالهم ، فهي الحضن الدافئ للجميع ، وهي القاسم المشترك لكل قرابتها فلا تكاد تراهم إلا في بيتها ، فبرغم ضيق مساحته إلا إنها جعلت منه قصرًا يتسع للجميع ، يقول المثل : اذا تواسعت القلوب تواسعت الجنوب ، جعلت من بيتها مدرسة في الصبر والكرم والسخاء والتربية ، ومصنعًا حسيًا ومعنويًا لكل ما هو مهم وما هو أهم في حياتها المليئة بالإيجابية ، فالجميع يأنسون بقربها ويستمتعون بحديثها ، بل وصل الحال بهم إلى ماهو أبعد ، فرأينا من يؤثرها بنفسه ، وما ذلك إلا دليل حبٍ لها قد تجذر في النفوس، وجاوز الحدود والمعقول ، فقد مرضت ذات يوم واشتد بها الوجع لدرجةٍ كبيرة ، فرأت حلمًا غريبًا وحدثت به جيرانها من وراء الرص ، فالفواصل الداخلية في البيوت بين الجيران لم تكن سوى رص من أعواد الاشجار الدقيقة المشدودة بحبل رقيق غطي بشيء من الطين ، تجعل من البيتين بيتًا واحدًا يسمع بعضهم أحاديث بعض وكأنهم في مجلس واحد ، فقالت : رأيت شيئا مخيفًا يخرج من بيتي إلى بيتكم ، فقالت لها جارتها والتي تحبها حبًا شديدًا مفسرةً لها ذلك الحلم ، أبشري فهذا مرضك إن شاء الله يخرج من بيتك وينتقل إلى بيتنا ، وهذا ما حدث فعلاً فقد شفيت ومرضت جارتها .

مجتمعٌ صغيرٌ وبسيط ، ولكنه يعيش وسط بحرٍ من التضحية والإيثار والحب المتبادل ، قد أحاطوا به بعضهم كإحاطة السوار بالمعصم ، وقد كان لها في ذلك القدح المعلى والنصيب الأوفر ، وما ذلك إلا لأنها كانت تعاملهم بحب و إيثار ، بل كان لحسها ومشيتها وصوتها رتم خاص يتباشر به الجميع .


قلب كبير لم يأبه لضغوط الحياة وآلامها ، وكأنما ذلك القلب هو من يحملها وليست هي من تحمله ، همها أن تقدمه لكل من يحيط بها دون تفريق بين جارٍ وقريب ، قلب تفرق في قلوب الآخرين ووجدانهم حتى إذا جاء الأجل كان قدر الله أن يكون من ضحت لأجله بشبابها وكل سنوات عمرها يقف عند رأسها وفي وسط بيته تنظر إليه بعين الرضى ، لتسلمه راضية مختارة بقية قلبها ليبقى راعيًا لابنها وأحفادها وكل أحبابها ، وليكون شاهدًا على جيل شارف على إسدال الستار على زمانه ووقته ، ليبقى الأثر الطيب والذكرى الجميلة لتخرج روحها بعد ذلك بعد أن أدت ما عليها وحفظت الأمانة ، وأحسنت التربية ، لتموت إن شاء الله قريرة العين مطمئنة الفؤاد .

تلك هي أم الوادي الشرقي عزة بنت الحسين العثمان رحمها الله وعفى عنها وتقبلها في الصالحين .
فإلى جنة الخلد وبيت الحمد يا أمنا الغالية فما علمناك إلا صابرة محتسبة فنسأل الله أن تكوني ممن وعدهم الرحمن ببيوت الحمد في الجنة لقاء صبرهم على فقد صغارهم ، فوالله لكأني أنظر إلى صغيرك الحسين رحمه الله واقفًا بباب الجنة ينتظرك ليأخذ بيدك ويدخلك معه .


علي بن سعد ساعد
مكة المكرمة 
1440/3/19
TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript