عذرا أمي


بسم الله الرحمن الرحيم
                                                 
عاتبني بعض الأحبة حين لم أكتب شيئا في رثاء والدتي رحمها الله فكانت هذه الاسطر ، ونظرا لطول الموضوع وحتى لايمل القاريء الكريم رأيت أن يكون في أجزاء ثلاثة 


عــــــذرًا أمـــــي فقلمي لم يجد الحبر المناسب لرثائك 

مقال يغلب عليه الخيال الأدبي ، فأحيانا نحتاج أن نأخذ أذهاننا الى نزهة خارج أرض الواقع ، فلعلها ترتاح قليلا لتعطي جزيلا 



عذرا أمي .. فقد خانني قلمي ..وقبل ذلك رزيت بخيانة أفكاري ..فلم يعودا كعادتهما طوع إرادتي .. بل لقد رأيتهما وقد تنكرا لهمومي التي كانت وقودهما في رسم مشاعري تجاه أحبابي .. فلقد أعجزني والله ياأماه البحث بشتى السبل ..عن سر هذا العجز المخيف.. فعدم مقدرتي على الكتابة عنك يا أماه ..لهو أمر محير حقا.. قد يكون السبب في رغبتي في أن تأتي كتاباتي بمستوى الحدث ..ففقد الأم لا يعدله شيء من الرزايا .. وقد يكون السبب كثرة المواقف الرائعة في حياتك .. فكانت حيرتي من باب من أين أبدأ ..فتصارعت في رأسي ألأفكار.. دون أن تحقق إحداهن نصرا يذكر . 

يقول أصحاب الخيال الأدبي : بأن بنات الأفكار قد يراهن الكاتب أمام عينيه إذا أشتد به التفكير .. فأطلقت لخيالي العنان ..فلعلهن يأتين الي بفكرة جديدة تناسب مقامك العالي .. فماهي الا لحظات حتى رأيتهن وقد خرجن أمامي سافرات حاسرات الرؤوس ..وكأنهن يعلن بسمتهم ذاك عدم التقيد والانغلاق في فكرة محددة .. فهاهي إحداهن تقف على طرف الورقة بشموخ وكبرياء .. وتتبختر الأخرى في مشيتها متنقلة بين الأسطر.. وتسير الثالثة بدلال الغانيات ..محاولة لفت نظري إليها ..في حين تقبع رابعتهن في زاوية بعيدة ..قد غلبتها الأحزان وأغرقت وجناتها الدموع .. فما أن تقترح إحداهن علي فكرة إلا وترفضها أختها ..متقدمة بفكرة مختلفة تماما ..ثم تقبل الخامسة معترضة على كل ماسمعت.. فتقف ساخرة من أفكار أخواتها .. فهي تعتقد جازمة بأنها الوحيدة التي تفهمني ..فهاهي تقترب مني أكثر وأكثر.. فلديها فكرة تجزم بأني لن ارفضها .. وستكون مآدة دسمة سيتناولها قلمي بكل شهية فهي بحسب رأيها فكرة تليق بمن سأكتب فيها .. 

ولكنها مع ذلك تتفاجأ بأني قد رفضت فكرتها جملة وتفصيلا.. فيشتد الصراع بينهن أمامي للفوز بالرضى والقبول . 

الجزء الثاني 

ابتعدت قليلا عن ذلك الصراع الدائر بينهن ..وعن صخب الخلاف الذي يكاد أن يشطر رأسي ..لأريح ذهني وجسدي ..فقد بلغ بي الألم والحسرة على عجزي مبلغا عظيما . 

فاستسلمت للنوم بعد عناء كبير.. واستجداء طويل ..فان من رعى أمرا عظيما لم ينم .. فهل هناك أمرا أجل من كاتب يريد الكتابة عن أمه .. ولكنه الإرهاق الذهني الشديد.. فنمت وذلك الصراع بين بنات أفكاري قد سيطر على تفكيري.. وحجز مقعدا متقدما في العقل الباطن كما يقال ..فرأيت نتيجة لذلك الهم المسيطر علي ..زائرة تمد خطواتها الواثقة تجاهي ..فإذا هي تحمل شتى المتناقضات ..فهي تبدو حينا رقيقة المشاعر.. فياضة الحنان ..جآدة الخطى.. قاسية العتاب.. لم تمهلني كثيرا للتعرف عليها ..فقد أمسكت بتلابيبي دون مقدمات ..ثم صرخت في وجهي بقسوة بالغة ..وبشدة لاتتفق مع تكوينها ..قائلة :آلا تستحي أيها الرجل ؟.. آلا تخجل من نفسك ؟ .. أتكتب في البعيد والقريب.. وفي الصغير والكبير ..في الرجال والنساء ..وتكون اليوم عاجزا عن الكتابة في اعز الناس إليك .. أتبرر ذلك العجز بأعذار واهية ..فهل القلم يكتب إلا بك ..وهل الذهن يسعف القلم إلا منك .. أتلوم غيرك وأنت أحق باللوم ..الهذا الحد قد عقم ذهنك ،، وعجزت عن خوض بحر المعاني والكلمات ؟

فقلت لها بعد أن اختلط لدي الألم والأمل من مشاهدتها ..هوني علي يا أخية ..فما أنا إلا عابر سبيل قد أضاع طريقة من هول مصابه .. فنظرت إليها وقد رأيت دموعها تنهمر كسلسلة أفكار.. أشبه ماتكون باللآلئ .. فقلت متعجبا :! من أنتي ؟ومن تكونين بالله عليك ؟ فقد وجدت لديك ما ابحث عنه ..فهذه الأفكار التي تساقطت أمامي ..كفيلة بان تعيد إلي ذاتي وكياني..فها أنذا انطلق من جديد .. فقالت في حياء وخجل : أحقا ألا تعرفني !؟ 

..الاترى بأنني قد ألهمتك بكثير من الأفكار.. فانا أم بنات أفكارك ..فما لبثت حتى جمعت بناتها ثم ولت بهن هاربة .

استيقظت فلم أجد بجواري أحدا.. بحثت عن تلك الأفكار التي تساقطت أمامي كالمطر.. فلم أجد سوى بقايا حلم ..فلا ملهمة ولا بنات أفكار ..فبقيت وحيدا في مكاني ..لااملك سوى قلمي الذي اتهمته بالتقصير.. فلا حيلة لي إلا أن أناجيه وأعاتبه عتاب المحبين ..فلعله يجيبني حين سكت الآخرون . 


الجزء الأخير 

فلتصبرياقلمي على عتابي ..حتى وإن كان مؤلما .. أيكون الجفاء والهجر لمثلي ؟..أتقف عاجزا عن السيرمعي ؟ ..فما الذي فعلته حتى تتخلى عني ؟..أعند اشتداد حاجتي إليك لاأجدك !!.. لقد كنت أيها القلم تسابقني في انتقاء الكلمات ورسمها .. فانا وأنت لم نكن سوى صديقان.. لا نجد مناسبة تستحق الكتابة إلا وكانت ميداننا الذي يليق بركضنا ..فكم بنينا لأحبتنا من أفراحهم قصورا ..وكم نسجنا وطرزنا لسرورهم حدائق وارفة ..وكم استبقنا من أجل تخفيف أحزانهم بكلمات كتبناها بأنين القلوب .

فما الذي حدث أيها القلم ..ولماذا كل هذا الجحود .. اعند حاجتي للكتابة في اعز إنسان على قلبي أكون عاجزا !!.. أعندما تكون الفقيدة أمي أقف مشلول التفكير؟ّ! ..عصي الحركة ..فاقد البيان !!.. أعندما يعتصر الحزن فؤادي لا أجد ما أبوح به !! .. فأين تلك الكلمات التي سودت بها صفحات الأوراق ؟!..أعجزت أيه القلم عن أن تنقل للناس فيض وجداني؟! ..آآآه يالقسوتك أيها القلم .

هنا صرخ القلم قائلا: أنا لم ولن أتغير.. فالقلم هو القلم يكتب ما تمليه عليه القلوب ..فلتنظر لحالك يامسكين ولتسأل قلبك..ولتستفت وجدانك .. فلعل السر أن يكون بين جوانحك ..ولكن تمهل قليلا لأخبرك خبرا قد يفاجئك ..فنحن معشر الأقلام.. لنا مداد لايصلح أبدا لما تريد البوح به ..ولن نحتمل ثقل ما ستلقيه علينا من كلمات .. فنحن لم نصنع لمثل هذا ..فقد كتبت معك الكثير والكثير دون ملل ..ولكنك ستكتب هذه المرة عن أمك ..وانا لا أستطيع المغامرة معك في هذا الميدان أبدا ..فابحث عن قلم جدير بما تفكر فيه .. ولا أظنك ستجده أبدا ..لذا فإنني أعتذر منك.. فأبحث من جديد فلعلك تجد ما يترجم وينقل للناس رثائك .. فدماء القلوب لاتحتملها الأقلام .. 

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript