همسة في أذن الحياة


همسة في أذن الحياة

تنبيه هام
هذا حوار أدبي 
استدعاه الحال فنُسج بالخيال

تهيئة
شكرًا أبا محمد * فقد فقهنا الدرس

رسالة موجهة إلى كل من عرف من نفسه تقصيرًا ، وكلنا والله كذلك ،  ليس جلدًا للذات ولكن لنعد العدة لمثل هذا الموقف العصيب ، فالرحم ستكون معنا حال رحيلنا فإما أن تكون خصيمتنا أمام الله  يوم القيامة وإما أن تكون شفيعةً لنا ، فلنغتنم الفرصة الآن قبل فوات الأوان ، فخيار النجاة لايزال بأيدينا .

بسم الله الرحمن الرحيم

هكذا هي الدنيا تفرحنا حينا وتحزننا أحيانا ، غالبًا ما نضعف أمامها فتغلبنا ، ونادرًا ما نقف في وجهها ونوقفها أو نؤخر زحفها بحسب رغبتنا ، ومع ذلك فقليل منا من تهابه دنياه ولا يهابها .

بالأمس القريب وقبل ساعات معدودة من وفاته رحمه الله زرته ، كان كمن غلبه النوم ، لم يشعر بوجود زائريه ، دنوت منه ، قبلت جبينه ، عصفت بي الذكريات كإعصار ثائر ، ورغم أنه لم ينبس ببنت شفة إلا أنه تحدث معي بحديث الروح للروح ، ذاك الحديث الذي يسري في الفضاء حرًا طليقًا لتدركه القلوب بلا عناء  .

قال لي : أتدري كم نخسر في حياتنا وبإرادتنا وكامل وعينا ، إننا نخسر كثيرًا في حين نعتقد أننا من كسب أو سيكسب الرهان ، هذه الدنيا عجيبة ، والأعجب منها من يسير فيها دون هدى . يسير وهو لا يعلم سر وجوده ، ولا الهدف من حياته .

استدرك ثم قال لي : لعلك تعلم كم كابدت في هذه الدنيا كغيري وكم كسبنا منها وكم خسرنا ، فوالله إن كل ذلك أمامي الآن لا يساوي في نظري شيئا ،  اللهم إلا ما كان له في موازين ربي قدرا .

أتدري يا ابن العم ما الذي يجعلني استقبل آخرتي براحة وفرح وابتسام ؟ هناك شيء واحد اكتسبته منذ عهد قريب ، هو ما كسبته حقا في هذه الدنيا ، بل هو في هذه اللحظة بالذات أرجى ما أمله من ربي ، فانظر إلى هذه المرأة الجالسة بجواري ، ثم انتقل بنظرك إلى ذلك الرجل المتكئ على عصاه فأنت تعرفهم ، فوالله لوجود أخي وأختي بجواري في هذه اللحظة كما تراهما لهو غاية ما أتمنى ، وأن هذا الحضور لهو الحدث الأجمل والأروع في حياتي كلها ، ولن يشعر بقيمة هذه اللحظة إلا من عاش فقدها وهو في أشد الحاجة إليها ، فيا ليت قومي يعلمون .

فالحمد لله متم نعمته ، فها أنا الآن محاطٌ بقلبيهما اللذان هما من بقايا وجدان أبي وأمي ، أشعر بهما كجناحين يرفرفان حولي ، فبعد اليوم لن أحزن إن ودعت دنياي ، طالما حبيبَيّ بجواري ، لأنني سألقى ربي واصلاً لرحمي ، فوالله لدمعتيهما المتحدرة على وجناتهم حزنًا علي لهي عندي خير من الدنيا وما فيها ، نعم أنا بين زوجة وأولاد بنين وبنات ، وبين أقارب أنهل من معين حبهم وأرتشف من كريم ودهم ما يغني عن الحاجة ، ولكن لا شيء يعدل قلب الأخ والأخت بعد فقد الوالدين .

أخاك أخاك ، إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح

خيرت امرأة في زمن الحجاج في الإبقاء على ابنها أو زوجها أو أخيها بعد أن حُكموا بالقتل ، فقالت قولتها المشهورة : الزوج موجود والابن مولود والأخ مفقود فاختارت أخاها رغم حبها للبقية ولكن العاطفة إذا هيمن عليها العقل أنارت الدنيا .

هنا حمدت الله أن من عليه وعلى أخيه وأخته بذلك الفضل العظيم ، وقبل أن استأذنه في الخروج همست له بحكاية كنت قد زورتها بصدري منذ زمن ولم يكتب لها الخروج ، وذلك حين كان حبل المودة والوصل بينهم مرتخيا وبشدة  ،  نعم أقول هذا وأنا على ثقة بأن ذاك الجفاء لم يكن إلا سطحيًا ففي أعماق القلوب تكمن جذوة الحب التي لا يمكن لأي حدث أو موقف أن يقطعها ولكنها تحتاج لمغامر يزلزلها ويشعلها ويعيد جذوتها لتظهر لنا المعدن النفيس .

كانت فكرة مجنونة ، فوالله لولا خوفي أن تأتي بنتيجة عكسية لكنت فعلت ، ولكن اكتفيت بالدعاء بعد صرف النظر عنها للأبد ، كنت سأذهب لكل واحد منكما لوحده واكذب عليه ، فلعل هذا من المباح لأجل الإصلاح لأقول : أما علمت بأن أخاك قد مات ، وهو في المكان الفلاني ، ليس ذلك إلا ليلتقيا ويتحول الحزن والندم إلى فرح وعناق ودموع ، فكرة مقتبسة من مواقف حقيقية ، فكم من أشقاء أفلت الشيطان زمامهم بعد أن تمكن منهم سنوات وسنوات ولكنه في مثل هذه المواقف يطلق سراحهم ، ليس حبًا فيهم أو شفقة عليهم ولكن ليتركهم يتذوقوا طعم الحسرة والندامة بعد أن انتهى دوره في النيل منهم ، فلا معنى لعمله بعد الموت ، فتركهم لعقولهم ليعضوا أصابع الندم حين لا ينفع الندم .

قال لي وهو يبتسم لقد كفيناك هم هذا الموقف ونفذناه ولكن بطريقتنا ،  ليس بخبر موت بل بحفل فرح ، فالمواقف في الحالين مظهرة لخفايا النفوس ومبرزة لجمال العلاقات المخفية تحت ستار الكبرياء المزعومة ، ففي الحالين يخنس الشيطان ويذوب حسرة وندامة ، ونذوب فيه نحن حبًا وفرحًا و مودة.

ذكرني بالموقف الشهير في حفل زواج أصغر ابنائه ، حين استقبل أحب ضيوفه إليه وأكرمهم وأغلاهم  ، فقد احتفى به أيما احتفاء ، فالأحضان والدموع في لحظة فرح بعد غياب طويل أضفت على المشهد الكثير من البهاء والألق والفرح الغامر لكل من حضر ونظر أو غاب وسمع  ،

قلت له : أذكر ذلك والله ، وأذكر أنك أعدت الأمور لنصابها حالاً ، لم تنتظر العقل ليرتب الموقف الجديد المفاجئ ، بل من لحظتها أعطيت القوس باريها ، فسلمت أخاك دور قيادة الحدث ، وكأن شيئا لم يكن ، فها هو لم يكن ضيفًا بل هو صاحب الحفل الأكبر وهو من له الكلمة في ذلك الحفل البهيج ببهجة أرواحكم الراقية

هنا استأذنته للمغادرة ولكنه استوقفني ليقول لي ، بلغ عني بقلمك واسمع الدنيا كلها بأن ملذات الحياة كلها لا تحلو أبدًا ، حتى وإن ضحكنا على أنفسنا وأوهمناها زورًا وكذبًا بأننا حين نعيش بعيدًا عن إخوتنا نكون أفضل حالاً ، أخبرهم بأن الحياة الحقيقية وأن السعادة بكل حالاتها تكمن في أخ محب مشفق ، فمن تاه عن أخيه وهو بجواره وأمام عينيه فهو لما سوى ذلك أكثر تيهًا وأقل توفيقًا ، فإن في الدنيا جنة ،  ولا أظن سنامها إلا صلة الارحام ، فمن لم يذقها لم يذق جنة الآخرة .

هنا أقف حامدًا لله على منه وكرمه وتوفيقه بأن يسر دروب البر والصلة لمن أحب واصطفى من عباده ، فاللهم لا تحرمنا فضلك واجعلنا ممن وصلتهم برضاك ، واعدنا لأحضان أحبابنا  قبل أن تقبضنا إليك .

كتبه
علي بن سعد ساعد
مكة المكرمة
الاثنين 1439/6/24
.................................................................
* عبدالله بن أحمد القدادي رحمه الله والذي وافاه الأجل يوم الجمعة الموافق 1439/6/21 

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript