الدرس الأخير



الأستاذ/ معيض بن مسفر الزهراني رحمه الله 
مدير مدرسة البيهقي بآل ختارش بمحايل عسير 


بسم الله الرحمن الرحيم

الأساتذة معيض وإيمان الزهراني

 رحمهم الله تعالى والدرس الأخير 

بمناسبة الذكرى السنوية لليوم العالمي للمعلم

(رؤية أدبية)

بنظرة تبدو لهما عادية ، فلطالما اعتادا على مثل هذه اللحظات، اقفلا سجلات الدوام لذلك اليوم في مدرستيهما ، لا يعلمان ان ذلك الإجراء وتلك النظرات انما هي نظرات وداع ،فهاهما يسيران من قدر الله الى قدر آخر من اقدار الله ، قدر مجهول عندهما معلوم عن ربهما ، ليس لهم فيه خيرة ، فهما مسيران لا مخيران ، وكانهما بذلك يتمثلان قول الشاعر القديم : 

على كف القدر نمشي .. ولا ندري عن المكتوب . 

فلو كشف لهما غطاء الاقدار حينذاك ، فارسلا الانظار في ما يحيط بهما من جدران وابواب ونوافذ ومكاتب وادوات ، لتحدث المكان بما حوى وللوح لهما برايات الوداع ، ولاسمعهما اهات الاحزان  ،فكاني بهما ينظران وهما يغادران تلك الصروح التربويه والمعاقل التعليمية ، فتتلاشا خلفهما شيئا فشيئا وهي تلوح لهما بالوداع ، وتتبعهما بنظرات التحسر والحيرة .

ولو اصغوا اسماعهما الى تلك الطريق التي اعتادت خطواتهما صباح مساء ، لسمعا انينا وحزنا يسبحان في الفضاء ويكادا ان يظللا تلك الانحاء كغمامة قاتمة تحمل في ظاهرها حزنا عميقا ، وفي داخلها دعوات صادقات بان يتولى الرحمن امرهما ،وان يعاملهما برحمته ،وان ينجز لهما وعده على لسان حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم اذ قال : ان الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر؛ ليصلون على معلمي الناس الخير»  

ولو اذن لتلك الجمادات بالحركة وإبداء المشاعر ، لطلبت منهما ما يطلب الأطفال من ابويهم حال الوداع ،ولعانقاهما عناق الثكالا ،ولملأ كل منهما ناظريه قبل الوداع من بستان طالما بذرا فيه زرعا واسقياه حبا وتعهداه رعاية حتى قام على سوقه ونضجت سنابله  ، ولكأني بتلك الأماكن وهي تقول لهما : انعم بكما واكرم فقد اديتما ما عليكما، وغدا سيتبعكما ذكركما الطيب ،وسيعلم بقدركما البعيد والقريب .

وسيدعو لكم من يصله ولو طرفا من اخباركم حتى وان لم يعرفكم ، وعند ربكما قبل ذلك وبعده ستجدان ان شاء الله  الثواب الجزيل  لقاء ما قدمتما من خير لابناء وبنات المسلمين ،فاذهبا الى حيث أراد ربكما ،فما ستقدمانه هناك من درس رغم بعده عن مكانه المعتاد وبادوات لم تعهدها المدارس سيكون درسا بليغا بإذن الله .

 فهو  درس لا يحتاج لقاعة او فصل ولا للوحة او سبورة ولا اقلام او طباشير ، بل لا يحتاج الى دفاتر او كتب  فهو درس فريد سيعرض في مسرح مفتوح ، مسرح لا ستارة له ولا براقع ، ولا خشبة ولا خلفية ، ولا فجوة ملقن ولا جمهور ، بل ليس هناك مؤلف ولا مخرج ولا ديكورات ولا كواليس .  

وصلا الى منزلهما وكأن الأرض بمعالمها وبمسافاتها وباوقاتها تلوح بأيد مرتجفة وبجفون متعبة ودموع منهمرة ، يتسالون فيما بينهم احقا لن يعودا ؟؟ يقول تعالى في حال العصاة : "فما بكت عليهم السماء والأرض" وعكس أولائك من يعلم الناس الخير فعند موتهم ستبكي عليهم الارض حتما ، فطالما استمتعت بوقع أقدامهم على اديمها وهم رواحون غداءون وقد اغبرت أقدامهم وانهكت اجسادهم في تلك الدروب النيرة . 

فالمعلمين في الارض كالاشجار حال حياتهم ومماتهم ، فالاشجار تموت واقفه والمعلم ان مات سيبقى واقفا شامخا بارثه التربوي والعلمي الذي زرعه ذات يوم في قلوب طلابه فحضوره تعليم وغيابه تربيه 

لطالما قدما دروسا وافادوا نفوسا ، ولكنهما غدا سيكونا واولادهما هم الدرس نفسه ، درس لم يعداه ولم يحضرا له ، ولم يجمعا له الياته من وسائل إيضاح وخلافها ، فقد أعد الدرس سابقا من رحمن رحيم ، وحدد له وقته ومكانه والياته ، فلم تات فكرة التنزه لهذه الاسرة في ذلك اليوم وتلك الساعات وبذلك الاعداد من فراغ ، بل كانت قدرا من الاقدار ، وإعدادا وتهيئة لمرحلة جديدة من حياة هذه الاسرة الكريمة ، 

فما أن جاء ظهر الجمعة حتى بدات ارهاصات المشهد الاخير تدنو وتقترب ، فاستعد الجميع على غير العادة ، فلم يحدث ان خرجت الاسرة كاملة لاي مكان الا في تلك الساعة ، فكأنما يريد الله امرا وسيمضيه بحكمته ، فأحدث في نظام الأسرة في مثل هذه الحالات اختلافا ليوافق قدره ، فغالبا مايبقى في البيت  احدهم او بعضهم وخاصة ابنتهم الوحيدة ، والتي لا تحب الخروج ، فما الذي جعلها في تلك الرحلة وذلك المشوار تسابق أهلها إلى السيارة ؟ ، وقد تهلل وجهها فرحا وسرورا ، إنها حكمة الله البالغة ، فالدرس الذي سيقدم بعد ساعات كان يتطلب حضورها ، فلو بقيت في البيت كعادتها والله اعلم  ، لما احتمل قلبها تلك الفاجعة ، فرحمة الله قد تكون فيما نراه مؤلما . 

كان شاطى البحر هو هدف تلك النزهه ، ولعل لله حكمة في ذلك ، فما أن قاربت الشمس على الاختفاء خلف البحر ، وبأنفس مفعمة بالسعادة والراحة والحبور ، اكتملت الاسرة داخل  تلك المركبة ، والتي ستتحول بعد دقائق من بساط كبساط الريح يسر فيه راكبوه لنعش جماعي ، ومن كبسولة تجاورت فيه الاجساد وتلاحمت الارواح الى مكوك تناثرت منه الأجساد وتباعدت .

وصلوا للطريق الدولي في طريق عودتهم لمنزلهم  ، وما هي الا مسافة محددة مكتوبة في اقدار الله ، حتى اضطروا للتوقف على نفس الطريق فالمطر غزير جدا لدرجة فقد الرؤية بسببه ، فأصبح التوقف حيث هم  لزاما لا مفر منه . 

هنا بدأ الدرس وقدم كل واحد من الاسرة دوره ، حتى المكان كان له كلمة وهو يودعهم ، وكانه يجيب عن اسئلتهم بقوله : اعلم جيدا انكم لستم ببطن واد ، ولم تكونوا متهورون مقتحمون لمجرى السيل في مغامرة غير محسوبة العواقب ، وانكم في مكان هو أكثر مكان آمن ، كنتم تظنون انه ابعد مكان عن الخطر ، ولكن لا يغني حذر من قدر ، فالله يابا الا ان ينفذ قدره ، فالاقدار حينما تأتي تكون كل الأشياء لها سبب ، فها انتم لم تنزلوا الى السيل ولم تلقوا بأيديكم الى التهلكة ، بل هو من اتاكم واقتحم حصنكم ، لتقولوا لمن خلفكم أحسنوا الظن فيمن يكون قدره كقدركم ، فليس كل من اختطفته السيول كان متهورا غير عابئ بروحه وأرواح اسرته ، فما اجمل وابلغ هذا الدرس منكم ، فالمعلمين ابعد الناس عن مثل هذه التصرفات والمغامرات .

لكأني بكم في تلك اللحظات وقد اخذ كل واحد منكم مقعده في صفه الدراسي ، وان كان ذلك الصف سيتحول بعد لحظات لنعش سيحملكم الى عالم آخر  ، عالم فيه من الرحمة ما الله به عليم ، وسيترك الله للحياة اهم اهداف هذا الدرس ،  فاقدار الله يصحبها لطفه ، فابقى منكم نفسا كانت شاهدة لما حدث ، فلولا رحمة الله وربطه على قلبه عند الصدمة الاولى لكان الله اعلم بمآله ، ولكن من أبقاه بعد هذا المشهد المهيب المذهل انما كان لحكمة ارادها  ، فالله هو الحافظ والقادر ان يكون ذلك الطفل امتداد خير وعوض صالح لاسرته ، فهم بحاجة خلف صالح يرفع الله به درجاتهم وذلك جزاء صبره على فقدهم ، وليدعو لهم كلما تراى ذلك المشهد امام عينيه ، ولا اظنه سينسي ذلك ابدا ، ليس زيادة في أحزانه ولكن ليرفع الله بذلك درجاته ودرجاتهم .

اما العبرة من ذلك الدرس فقد وصلت الينا جميعا وليس لقرابتهم فقط ، فاستبقاء واحدا من تلك الاسرة وفي سن صغير انما ذلك ليلتفت كل واحد او واحدة لمحيطه القريب ، فكم من يتيم او فاقد لسند في هذه الحياة نحسبهم اغنياء من التعفف لا يسألون الناس الحافا ، وليرى منا كل مكلوم قد ارهقته الحياة وقهرته الظروف وقتله الفقد خيرا ، ولنكن لهم اهل وسند ، فوالله اني لارى في ثنايا هذا الحادث وامثاله رحمة عامة تجاوزت أصحابها  الى كل الدوائر المحيطة بهم حتى وان بعد الجوار ونأى المزار ، فالله الله ان يأخذ كل واحد من تلك الرحمات نصيبا .

ختاما 

هو العام الدراسي الجديد والذي ما ان تم استقباله من منسوبات مدرسة تيه آل عيسى للطفولة المبكرة بمحايل عسير وفي مقدمتهن قائدة المدرسة الأستاذة إيمان بنت سعيد الزهراني حتى ودعها بعد أيام من استقبالها له فرحمها الله رحمة واسعة .

وهذا مقطع فديو لاستقبال العام الجديد بمدرسة تيه آل عيسى للطفولة المبكرة بمحايل عسير بقيادة الأستاذة إيمان رحمها الله 

https://youtube.com/shorts/bWWadFYRfT8?si=pTy65t0xLckzJ-Kt

علي بن سعد الزهراني 

الاطاولة 1446/4/1...2024/10/5






التصنيفات

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript