رفيق الشِّيَم

رفيق الشٍّيم 

ورحل البشوش المزوح الشهم الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
رحمك الله يا ابا يحيى وجعل ما أصابك كفارة لذنوبك ورفعة لدرجاتك ، اللهم يمن كتابه ويسر حسابه واكرم نزله .
رجل لم يعش لنفسه ابدا ، فكل همه كان  فيما يرتقي بالإنسان والمكان ، فلا تكاد ترى اجتماعا يهدف لامر عام الا وتراه اول المجتمعين ان لم يكن هو من فكر وخطط ودعى اليه  ،  ثم قارب في ذلك الاجتماع بحكمته بين وجهات النظر ، فالكل يحبه ويستبشرون برؤيته ويتفاءلون بحضوره ويأنسون برأيه ورؤيته ، فمحبته لافراد الجماعة وحبهم له لا يختلف عليها اثنان  ، كيف لا وهو من قد اعتاد برهة من الزمن على جمعهم كل عام على مأدبة إفطار رمضاني في بيته العامر بالاطاولة  ، حرصا منه على جمع الكلمة ولحمة الصف ،  فعفى الله عنه وغفر له .
 فوالله يا أبا يحيى انه لاحزننا غيابك حال مرضك الطويل  ، ثم احزننا الان رحيلك عنا ، ولكن عزاءنا انك قد قدمت على كريم رحيم  ، وان الخير في عقبك وفي اخوتك  ، ولنا نحن في  طيب ذكرياتنا معك يا أبا يحيى عزاء وسلوى  .

تذكرت حين اتاه احد أفراد الجماعه في مكان عمله بمحكمة القرى بالاطاولة ذات يوم  ، طالبا منه امرا عرف عنه رحمه الله  ، الا وهو الشيمة ،  فاتاه طالبا ومحفزا لذاك الخلق الرفيع  ، والذي قل من يتحلى به  ، بل القلة من قليل القلة هم الذين يفهمون متى واين وكيف يضعون الشيمة في مكانها الصحيح  ، فطلب منه الخروج معه خارج مكتبه ليشرح له الامر بعيدا عن أعين الناس  ، وسيعرض عليه ان رجلا من خارج القبيلة اعتدى بالكلام ليس عليه فقط ولكنه عمم على كل جماعته ،  وسيطلب منه ان يتولى الامر وان يجمع ما اجتمع له من الناس ليذهب بهم الى حيث ذلك الرجل ، فالحقوق تؤخذ ولا تمنح ،  فهكذا كان هدف الرجل ، فقد كان متوقعا ان صاحبنا سيأخذه الحماس ثم ينطلق من فوره يقود كتيبة من الرجال لرد الاعتبار وتأديب المتطاول  ، واسماع من تسول له نفسه كلمتنا وان المساس بلحمتنا خط احمر .

خرج من مكتبه مصطحبا معه زميله وصديق عمره اخينا سالم بن عبد الرحمن رحمه الله ،  وأنعم بهما من رجلين لاتزال وستظل بصماتهما في جبين مجتمعنا شامخة ،  وفي سجلات صداقتهما لا تحول ولا تزول مهما تقادم الزمن  ،  فما أن غادر مجلسهما حتى تعلم منهما ما جهله رغم انه معلم عافس التربية والتعليم ماشاء الله له ، ولكنها الحياة وجامعتها ومخرجاتها من حكمة وتروي وسداد قول تعطى لمن يستحقها  ، اخبراه ان الشيمة احيانا تكون في التجاهل وعدم اعطاء قائلها اي اهتمام  ، ولان أبا يحيى رجل بسام مزوح حب ان ينهي اللقاء بكلمات مريحة حتى لا يكسر بخاطر من توسم فيه ردة فعل قد تفوق ردة فعله هو ، فقال له مداعبا : اذا كانت الكلمة ثقيلة عليك فأقسمها على كل الجماعة ولا تحملها لوحدك لانك حتما ستتعب  ، فان فعلت سترى ان نصيب كل واحد منا كحبة قمح بل اقل  ،  فسر يارعاك الله فان القافلة تسير والكلاب تنبح ، وكما قال الشاعر : 

            لو كل كلب عوى القمته حجرا

                                    لاصبح الصخر مثقالا بدينار 

يقول ذلك الرجل : والله لتعلمت منه درسا في التربية والصبر على الناس لم انسه طوال عمري  ، بل جعلته من آليات تربيتي لنفسي اولا ثم لطلابي بعد ذلك ، فلرب ضارة نافعة .

وهنا درس اخر من دروس ابي يحيى  ، فذات يوم اعد اخونا سالم بن عبد الرحمن رحمه الله مناسبة لمولوده محمد حفظه الله وهي ما تسمى بالعقيقة او الكبارة بلهجتنا ،  فاجتمع الناس وفي مقدمتهم صاحبه المقرب والذي لا تكاد تراهما في صباح او مساء الا وهما معا ،  انه اخينا محمد بن معيض السراد رحمه الله ،  ليخرج أمامنا ووسط ذهولنا سيفا وبشتا وأشياء أخرى ،  ليعيد لنا بهذا العمل وتلك اللفته التي غلبت عليها الطرافة حينذاك  ، عادة جميلة انقرضت ، الا وهي كسوة السمي ، فكانت موضوعا دسما لاحاديث الناس لفترة طويله  ، فعرفت الناس مدى قرب الصديقين من بعضهما  ، وان تلك اللفته لم تكن الا سهم خير من جعبة الشيم التي كان يتحلى بها في حياته لخدمة احبابه وأصحابه والتعبير لهم عن غزارة مشاعره .

ولحب الثقافة عند أبي يحيى حديث اخر ذو شجون ،  فكم من مرة جعل فيها بيته ناديا أدبيا يجمع فيه الشعراء والرواه من كافة ارجاء المنطقة من غامد ومن زهران من تهامة والسراة والبادية   ، وكان يحرص على تسجيل تلك اللقاءات في أشرطة كاست قبل انتشار كمرات الفديو  ، وكم كان له جهود أدبية في برامج التنشيط السياحي الذي كانت تنظمه المحافظة ضمن البرامج الصيفية لإمارة الباحة .

وفي هذا الباب يخبرني الشيخ عبدالعزيز بن شيحان : انه أورد كلمة من غرائب الكلمات اثناء حديثة لمجموعة من الناس وكان ابو يحيى ضمن الحضور  ، فلم يناقشه فيها رغم وضوح الاستغراب على محياه ،  فاتاه في اليوم التالي وقد اصل تلك الكلمة وذاكرا كيف فسرها البعض وكيف وردت ونطقت في في معاجم اللغة . 

ابو يحي لم يكن الا سحابة ممطرة تمر وتنهمر جودا وكرما ، كان يتفقد من يرى انه بحاجة دعم مادي او نفسي فيقف معه بماله وجاهه  ،  فذات مرة حمل معه مئة الف ريال ظنا منه بان احد الجماعة في حاجتها ولكنه عاد بها وباضعافها دعاء  ، فلم يكن من اراد الوقوف معه  يحتاجها ، ولكنه موقف من مواقف الشيم  يسجل له في دواوين الأجور والحسنات في الآخرة ان شاء الله ، فماذا ابقيت لنا أيها المدرسة بل الجامعة لنتكلم فيه  فالشيم رفيقتك وحسن الصحبة شيمتك  .

ذات مساء وقبل مرضه الاخير بفترة قصيرة اتصل بي هاتفيا مبديا رغبته ان التقيه انا ومعي اخي وزميلي الاستاذ احمد بن سعيد عرم الله  ، وفي الغد التقيناه في المكان المحدد والذي لم يكن سوى قارعة الطريق  ، اخذنا معه سيرا على الاقدام لمكان غير بعيد وقد كان عبارة عن قطعة ارض مقابل بيته من الجهة الشرقية ليخرج لنا من جعبته مشروع شيمة اخر  ، فالطريق من جانب بيته يكاد ان يكون اضيق ما فيه ،  قال : اريدكما شاهدان لعمليه بيع لهذه الارض ،  والتي ساجعل منها جزءا للطريق ليتسع للسيارات  ، وسنذهب الان بعد ان تعرفا المكان الى صاحبها في بيته فهو في الانتظار .

نعلم جيدا ان من لديه ملك قد يتبرع بجزء منه لمنافع المسلمين  ، ولكن ان يشتري رجلا ملكا ليقدمه بنفس راضية كصدقة جارية فهذا والله من النوادر ،  ولا يستطيعه الا من  غذاؤه الشيم وشرابه القيم .

هذا الرجل الشهم لم تكن هذه اللفته منه وليدة يومه  ، فقد تشرب من شبابه بل منذ طفولته الشهامة والنخوة والكرم والسخاء  .

راى ذات يوم مجموعة من الناس رحالا ونساء وقد تحلقوا حول بئر قريبة من بيته  ، وقد ارتفعت الاصوات  ، فما ان وصل حتى عرف ان طفلة سقطت في تلك البئر  ، فلم يثنه تفكير ولا ترو ،  فنزل البئر دون ان يوثق نفسه ،  فقط امسك بيديه ذلك الحبل المتدلي فانطلق كالسهم لقاع البئر في ثوان ، امسك بالطفله وانقذها بتوفيق الله في الوقت المناسب  ، حيث تمكن من اخراجها بعد ان وضعها بمكتل انزل اليهما من اعلى البئر .

خرج من البئر لاحقا ليكتشف ان يديه من الداخل قد مزق لحمهما  ، وتغشتها الدماء  ، فبقي اياما طويله لا يستطيع استعمالهما بشكل طبيعي ،  فاي جعبة كانت تحملها روحك يا أبا يحيى .

لم تكن اسرتك المكلومة الوحيدة برحيلك وافتقاد روحك واياديك البيضاء ،  فنحن كلنا كذلك بل هناك من اوجعه الفقد مثلنا واكثر  ، اما تلك الشيم التي لم تفارقك في حياتك  ، فاطمئن فانها ستكون رفيقتك في قبرك تؤنس وحدتك  ، وتجعل من قبرك روضة من رياض الجنة ان شاء الله .

علي بن سعد ساعد الزهراني

الاطاولة .. دار عوضه 

الخميس ١٤٤٦/٥/٢٦ الموافق ٢٠٢٤/١١/٢٨



التصنيفات

هناك تعليق واحد

  1. بيض الله وجهك ..اخونا علي .قلمك مبدع و يصل للقلب من القلب ..شكرا بحجم السماء

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript