رفيق الشٍّيم
تذكرت حين اتاه احد أفراد الجماعه في مكان عمله بمحكمة القرى بالاطاولة ذات يوم ، طالبا منه امرا عرف عنه رحمه الله ، الا وهو الشيمة ، فاتاه طالبا ومحفزا لذاك الخلق الرفيع ، والذي قل من يتحلى به ، بل القلة من قليل القلة هم الذين يفهمون متى واين وكيف يضعون الشيمة في مكانها الصحيح ، فطلب منه الخروج معه خارج مكتبه ليشرح له الامر بعيدا عن أعين الناس ، وسيعرض عليه ان رجلا من خارج القبيلة اعتدى بالكلام ليس عليه فقط ولكنه عمم على كل جماعته ، وسيطلب منه ان يتولى الامر وان يجمع ما اجتمع له من الناس ليذهب بهم الى حيث ذلك الرجل ، فالحقوق تؤخذ ولا تمنح ، فهكذا كان هدف الرجل ، فقد كان متوقعا ان صاحبنا سيأخذه الحماس ثم ينطلق من فوره يقود كتيبة من الرجال لرد الاعتبار وتأديب المتطاول ، واسماع من تسول له نفسه كلمتنا وان المساس بلحمتنا خط احمر .
خرج من مكتبه مصطحبا معه زميله وصديق عمره اخينا سالم بن عبد الرحمن رحمه الله ، وأنعم بهما من رجلين لاتزال وستظل بصماتهما في جبين مجتمعنا شامخة ، وفي سجلات صداقتهما لا تحول ولا تزول مهما تقادم الزمن ، فما أن غادر مجلسهما حتى تعلم منهما ما جهله رغم انه معلم عافس التربية والتعليم ماشاء الله له ، ولكنها الحياة وجامعتها ومخرجاتها من حكمة وتروي وسداد قول تعطى لمن يستحقها ، اخبراه ان الشيمة احيانا تكون في التجاهل وعدم اعطاء قائلها اي اهتمام ، ولان أبا يحيى رجل بسام مزوح حب ان ينهي اللقاء بكلمات مريحة حتى لا يكسر بخاطر من توسم فيه ردة فعل قد تفوق ردة فعله هو ، فقال له مداعبا : اذا كانت الكلمة ثقيلة عليك فأقسمها على كل الجماعة ولا تحملها لوحدك لانك حتما ستتعب ، فان فعلت سترى ان نصيب كل واحد منا كحبة قمح بل اقل ، فسر يارعاك الله فان القافلة تسير والكلاب تنبح ، وكما قال الشاعر :
لو كل كلب عوى القمته حجرا
لاصبح الصخر مثقالا بدينار
يقول ذلك الرجل : والله لتعلمت منه درسا في التربية والصبر على الناس لم انسه طوال عمري ، بل جعلته من آليات تربيتي لنفسي اولا ثم لطلابي بعد ذلك ، فلرب ضارة نافعة .
وهنا درس اخر من دروس ابي يحيى ، فذات يوم اعد اخونا سالم بن عبد الرحمن رحمه الله مناسبة لمولوده محمد حفظه الله وهي ما تسمى بالعقيقة او الكبارة بلهجتنا ، فاجتمع الناس وفي مقدمتهم صاحبه المقرب والذي لا تكاد تراهما في صباح او مساء الا وهما معا ، انه اخينا محمد بن معيض السراد رحمه الله ، ليخرج أمامنا ووسط ذهولنا سيفا وبشتا وأشياء أخرى ، ليعيد لنا بهذا العمل وتلك اللفته التي غلبت عليها الطرافة حينذاك ، عادة جميلة انقرضت ، الا وهي كسوة السمي ، فكانت موضوعا دسما لاحاديث الناس لفترة طويله ، فعرفت الناس مدى قرب الصديقين من بعضهما ، وان تلك اللفته لم تكن الا سهم خير من جعبة الشيم التي كان يتحلى بها في حياته لخدمة احبابه وأصحابه والتعبير لهم عن غزارة مشاعره .
ولحب الثقافة عند أبي يحيى حديث اخر ذو شجون ، فكم من مرة جعل فيها بيته ناديا أدبيا يجمع فيه الشعراء والرواه من كافة ارجاء المنطقة من غامد ومن زهران من تهامة والسراة والبادية ، وكان يحرص على تسجيل تلك اللقاءات في أشرطة كاست قبل انتشار كمرات الفديو ، وكم كان له جهود أدبية في برامج التنشيط السياحي الذي كانت تنظمه المحافظة ضمن البرامج الصيفية لإمارة الباحة .
وفي هذا الباب يخبرني الشيخ عبدالعزيز بن شيحان : انه أورد كلمة من غرائب الكلمات اثناء حديثة لمجموعة من الناس وكان ابو يحيى ضمن الحضور ، فلم يناقشه فيها رغم وضوح الاستغراب على محياه ، فاتاه في اليوم التالي وقد اصل تلك الكلمة وذاكرا كيف فسرها البعض وكيف وردت ونطقت في في معاجم اللغة .
ابو يحي لم يكن الا سحابة ممطرة تمر وتنهمر جودا وكرما ، كان يتفقد من يرى انه بحاجة دعم مادي او نفسي فيقف معه بماله وجاهه ، فذات مرة حمل معه مئة الف ريال ظنا منه بان احد الجماعة في حاجتها ولكنه عاد بها وباضعافها دعاء ، فلم يكن من اراد الوقوف معه يحتاجها ، ولكنه موقف من مواقف الشيم يسجل له في دواوين الأجور والحسنات في الآخرة ان شاء الله ، فماذا ابقيت لنا أيها المدرسة بل الجامعة لنتكلم فيه فالشيم رفيقتك وحسن الصحبة شيمتك .
ذات مساء وقبل مرضه الاخير بفترة قصيرة اتصل بي هاتفيا مبديا رغبته ان التقيه انا ومعي اخي وزميلي الاستاذ احمد بن سعيد عرم الله ، وفي الغد التقيناه في المكان المحدد والذي لم يكن سوى قارعة الطريق ، اخذنا معه سيرا على الاقدام لمكان غير بعيد وقد كان عبارة عن قطعة ارض مقابل بيته من الجهة الشرقية ليخرج لنا من جعبته مشروع شيمة اخر ، فالطريق من جانب بيته يكاد ان يكون اضيق ما فيه ، قال : اريدكما شاهدان لعمليه بيع لهذه الارض ، والتي ساجعل منها جزءا للطريق ليتسع للسيارات ، وسنذهب الان بعد ان تعرفا المكان الى صاحبها في بيته فهو في الانتظار .
نعلم جيدا ان من لديه ملك قد يتبرع بجزء منه لمنافع المسلمين ، ولكن ان يشتري رجلا ملكا ليقدمه بنفس راضية كصدقة جارية فهذا والله من النوادر ، ولا يستطيعه الا من غذاؤه الشيم وشرابه القيم .
هذا الرجل الشهم لم تكن هذه اللفته منه وليدة يومه ، فقد تشرب من شبابه بل منذ طفولته الشهامة والنخوة والكرم والسخاء .
راى ذات يوم مجموعة من الناس رحالا ونساء وقد تحلقوا حول بئر قريبة من بيته ، وقد ارتفعت الاصوات ، فما ان وصل حتى عرف ان طفلة سقطت في تلك البئر ، فلم يثنه تفكير ولا ترو ، فنزل البئر دون ان يوثق نفسه ، فقط امسك بيديه ذلك الحبل المتدلي فانطلق كالسهم لقاع البئر في ثوان ، امسك بالطفله وانقذها بتوفيق الله في الوقت المناسب ، حيث تمكن من اخراجها بعد ان وضعها بمكتل انزل اليهما من اعلى البئر .
خرج من البئر لاحقا ليكتشف ان يديه من الداخل قد مزق لحمهما ، وتغشتها الدماء ، فبقي اياما طويله لا يستطيع استعمالهما بشكل طبيعي ، فاي جعبة كانت تحملها روحك يا أبا يحيى .
لم تكن اسرتك المكلومة الوحيدة برحيلك وافتقاد روحك واياديك البيضاء ، فنحن كلنا كذلك بل هناك من اوجعه الفقد مثلنا واكثر ، اما تلك الشيم التي لم تفارقك في حياتك ، فاطمئن فانها ستكون رفيقتك في قبرك تؤنس وحدتك ، وتجعل من قبرك روضة من رياض الجنة ان شاء الله .
علي بن سعد ساعد الزهراني
الاطاولة .. دار عوضه
الخميس ١٤٤٦/٥/٢٦ الموافق ٢٠٢٤/١١/٢٨
بيض الله وجهك ..اخونا علي .قلمك مبدع و يصل للقلب من القلب ..شكرا بحجم السماء
ردحذف