سر الإختيار
بسم الله الرحمن الرحيم
بين الآم وآمال .. هكذا نعيش الحياة
نص أدبي يجنح للخيال
ولكنه يستمد مادته من كتاب الله و سنة نبيه
هناك وفي احد مستشفيات العاصمة خرج من جسد حبيبنا بعد أن أدى دوره وبإتقان ، فقد مات صاحبه الذي اصطحبه فترة من الزمن ، لم يفارقه لحظة واحدة ، لا في اقامته و لا في سفره ، ولا في وقوفه أو قعوده ولا في منامه أو يقظته ، بل كان مختلطا حتى بانفاسه ، لم يفارقه منذ أن حل ضيفا في بدنه إلا بعد أن أذِن الله لهما بالفراق ، فلا حاجة له بالبقاء بعد اليوم .
ولكنه قبل أن يغادر المكان نظر إلى مستضيفه نظرة اعتذار وكأنه يقول : حبيبي عبدالله ، اعذرني وسامحني ، فقد قسوت عليك كثيرا ، وأحزنت والديك واحبابك أكثر ، ولكنها حكمة الله تعالى ،ثم رمى نظره إلى من كان متواجدا في المكان فقال لهم بصوت فهموه ولم يسمعوه : لا تحزنوا على حبيبكم عبدالله ، فوالله لو تعلمون ما أعلم لعذرتموني ، بل ولشكرتموني ، فقد كنت له نعم الجليس رغم ما كنت أظهر لكم من قسوة عليه .
ثم التفت إلى الجهة المعاكسة حيث باب الغرفة ، فخرج منه دون أن يحدث صوتا أو يحس به أحد ، رغم انه كان قبل قليل يزلزل المكان بتأثيره واثره ، فانطلق في دهاليز المستشفى تعلو محياه ابتسامة رضى وتباشير فرح ، فقد أدى الأمانة وقام بواجبه ، ونال شرف صحبة شاب ليس كأي شاب ، شاب صبر واحتسب ضيافة ضيف مؤلم مزعج ، ورغم ذلك قام بواجب الضيافة خير قيام ، لم يظهر تذمرا ، ولم يبد تأففا أو تأسفا ، وإنما كان يرسل عبارات الترحيب بضيفه الثقيل حمدا وشكرا ورضى ، فما من زائر يسأله عن حاله إلا وقال والألم يعتصره : الحمد لله أنا بخير .
غادر ذلك الضيف المكان ، وعند بوابة المستشفى التقاه من يعرفه تمام المعرفه ، فلطالما كانا كفرسي رهان يجوبان الأرض غدوا ورواحا ، فما أن يضع أحدهما رحاله المؤلمة في جسد ما حتى يأتي الآخر ليقاومها ببلسم الأمل وأكسير الحياة ، فما أن يئن مريض من الألم حتى يشرق في ناظريه ما تهدأ به روحه وتطمئن به نفسه ، رغم ما يعانيه من ألم ووجع وتعب ، سئل بلال بن رباح رضي الله عنه ذات مرة ، كيف كنت تصبر على كل هذا الالم يابلال قال : كنت امزج حلاوة الايمان بمرارة العذاب فتطغى حلاوة الايمان على مرارة العذاب .
بادره صاحبه بسؤال : لم هذا الفرح الذي يعلو سحنتك وأنت تعلم أن في خروجك من الأجساد هزيمة لك ؟ فحقيقة لا أدري كيف أخاطبك ولا كيف أتحدث معك ولا كيف أفهمك أو أتفهمك ، أدري أنك مأمور ، وأدري أنك لا تختار أهدافك بنفسك ، وأدري أنك لا توجع الناس بمحظ إرادتك ، وأدري أن قوتك وضعفك بحسب المكان الذي تحل فيه ، وأدري وأدري وأدري . ولكن الذي لا أدري عنه ولا أفقه سره هو عدم التزامك العدل مع من تصحبهم ، فذاك تمر عليه مرور الكرام ، وكانك نسمة عابرة تمر ولا تضر ، فما هي إلا ساعة أوساعتين أو يوما أويومين ثم ترحل عنه وقد عادت إليه صحته كأفضل مما كان ، و هذا تستطيب مجلسه فتمكث في بدنه الأيام تلو الايام ، والأشهر تعقبها أشهر ، ولا تكاد تغادر ذلك البدن إلا وقد أنهكته وبلغت منه ما لم تبلغ من غيره ؟ .
اخبرني عن سرك الدفين ؟ اتستلذ حقا بتعذيب بعض دون بعض ؟ اتحب بعضهم لدرجة صحبته وعدم مغادرة جسده حتى الموت لنصدق فيك القول : ومن الحب ما قتل ؟ يالقسوة قلبك وجفاف روحك ، كيف تطيب لك البسمة وأنت ترتع في الأجساد وتتفنن في توزيع الأحزان ؟
كرر ابتسامته في وجه محدثه مرة اخرى ثم قال له : انظر الى سؤالك فستجد اجابتي في ثناياه ، الم تقل بان الالم يتراوح في شدته بحسب المكان ؟ فكذلك البشر ، فعلى قدر المنزل عند الله يكون التوعك ويتراوح الالم في الشدة ، الم تعلم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : الأنبياء اشد بلاء ثم الأمثل في الأمثل ؟ فالنبي يوعك كوعكة الرجلين .
اقترب من صاحبه وهمس في أذنه : اتدري لماذا كنت شديدا وبدرجة لا تكاد تطاق على حبيبنا عبدالله ؟ قد تقول ويقول غيرك أن السر والسبب هو في إخفائه الخبر حتى عن أقرب الناس إليه كوالدته ووالده مما جعلني اسرح في جسده طولا وعرضا وبراحة وحرية دون رقيب ولا حسيب سوى الله ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فبر عبدالله وخوفه على أبويه هو ماجعل منزلته متقدمة لاكون معه عظيما كعظمته ، قويا كقوته ، لا تظنوا انني حللت في جسده لاوجعه ، ولا لأتلذذ برؤية امه وابيه واقاربه ومحبيه واعينهم تفيض من الدمع عليه ، وصدورهم تئن من الوجع من معاناته ، لا والله لم اكن ذلك الرسول المؤذي ولن اكون بإذن الله .
لقد كتم عبدالله خبر صحبتي لهدف جعلني اتمسك به اكثر واكثر ، فخوفه ان يقع الخبر على أمه وأبيه وكل محبيه زادني فيه حبا ، فكثير من الناس لا يهتم الا بنفسه ، فسرعان ما يرتمي في أحضان أمه وأبيه ليقاسموه الألم ، ولكن عبدالله أبى ذلك الأمر وقرر بمحض إرادته أن يحتمل الألام وشدتها لوحده ، ولا أن يكدر صفو أمه وأبيه ، فأين من يحمل خُلقا كخلق عبدالله ثم لا نحبه ؟.
ليس هذا فحسب هو ما جعلني احرص على صحبته والبقاء في جسده ، فمعرفتي السابقة بعبدالله جعلتني أتمنى أن أكون صديقا له حتى أكون سببا في رفع درجته ، بل حرصت أن أكون الصاحب الذي يختتم بي حياته ، فعبدالله شاب نادر ذو خصال عالية رفيعة ولا نزكيه على الله . فعبدالله شاب ظريف أنيس لطيف بشوش لا تكاد تراه إلا مبتسما ، والابتسامة في وجه أخيك صدقة ، وهو ممن يدخل السرور على الاخرين وخير الاعمال سرور تدخله على مسلم ، وعبدالله ان أوكل إليه عملا أجاد تنفيذه والله يحب اذا عمل احدكم عملا ان يتقنه ، ثم الا ترى ان الله اذا احب عبدا استعمله فوفقه لعمل صالح يقبضه عليه ؟ فانظر الى عمله في جمعية تحفيظ القراءن الكريم ، ومن يعرفه في عمله يدرك مدى حرصه واتقانه ونظافة لسانه ويده ، ثم أن المبطون شهيد وهو الذي يموت بداء البطن وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وَصَب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.. فبالله عليك امثل عبدالله ازهد في صحبته ومرافقته حتى وداعه ؟
قال له : ولكنك في أيامه الأخيرة قسوت عليه كثيرا لدرجة أنك كنت تقاتله في أكثر من جبهه ، فما أن يشكو من مكان حتى تخاتله وتخادعه فتغزوه في مكان آخر ، وما إن يغفو قليلا حتى توقظه ، لا لتريح جسده ولكن لتواصل معه الركض في ميدان الألم والتعب ، الهذه الدرجة تحب أن تنادمه ؟ أم هو تنفيذا لما أمرت به ؟ الا يشفع له طول صحبتك وضعف حيلته ؟
ابتسم وقال سأخبرك سرا لا أظنك ستصدقه ، وقد تعتقد أني في لحظاته الأخيرة تحولت كعدو شرس وليس محب مؤنس ، فعندما كنت أشد عليه كان يقدح في ذهنه تذكره للصلاة رغم شدة ألمه وفقدانه للوعي ، ولعلك سمعت ممن كان حوله بانه كان يردد الصلاة الصلاة ، ثم يكبر ويقرأ ما تيسر من القرأن ، بل كان يسأل بلهفة بعض من كان حوله رغم أنه لا يعي بوجودهم ، وكأنه خائف من أن لا يقدر على إكمال صلاته ، فما ان ينتهي من قراءة سورة حتى يقول بلهجته الجميلة : ايش بعدها ؟ ثم يغيب مرة ثانية عن الوعي ، فبالله عليك اتريدني ان اترك مثل عبدالله قبل ان اورده إن شاء الله الجنة بيدي ، فعبدالله يعرف تماما اين يهرب مني ، فالله ارحم به من امه وابيه ، ولذلك كان يفزع من شدة المه الى الصلاة ، فاللهم أنله بصحبتي له وبصبره علي منزلة عالية في الجنة .
لم يذهب شباب عبدالله سدى ، فمن يعرفه ويعرف تفانيه في خدمة والديه يعرف ان موته جزء من مهمته لراحة والديه ، فقد سبقهم ليتمم لهم بره ، سبقهم ليكون في استقبالهم عند باب الجنة ان شاء الله ليمسك بيديهما ويأخذهما الى بيتهما الذي اعده الله لهما ووعدهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنه بيت الحمد فليهنكما المنزل ابا أحمد وأم أحمد بذلك البيت الذي اشتراه لكما عبدالله والثمن موته قبلكما .
قال له أوافقك في كثير من كلامك وأنك نعمة للعبد ايما نعمة ، فوالله لو أنك تجسدت رجلا يمشي بين الناس ، ثم كشف الغطاء عن دورك الحقيقي في حياتهم ، لرأيت منهم الافراح لا الاتراح ، ولكنها حكمة الله حين اخفى عنهم رحمته في ثنايا المه .
هنا تعانق الالم والامل واتفقا ان يكونا جنبا الى جنب عند كل مريض مسلم وكل متعب ومهموم وحزين ( فمن طال به الألم فعليه أن لا يفقد الأمل ومن طال به الأمل فعليه أن لا ينس الألم ) رحم الله أبا عبدالرحمن عبدالله بن عطيه بن أحمد ، وعوضه عن شبابه بجنة عرضها السموات والأرض ، والهم والديه وكافة اسرته ومحبيه الصبر والسلوان ، وانا لله وانا اليه راجعون .
علي بن سعد الزهراني
مكة المكرمة 1446/10/23
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق