الخبيئة



بسم الله الرحمن الرحيم 

الخبيئة 

لعل بينه وبين ربه خبيئة لا يعلمها أحد من البشر ، حتى وإن كان أقرب الناس إليه ، لييسر الله له بها ميتة الشهداء وحسن الختام . 

        لحظات غريبة وأقدار رهيبة في حياة عجيبة   

سعيد بن محسن بن صالح اليحمد رحمه الله ، لم يكن صديق فوق العادة فحسب ، بل هناك قرابة قوية بيننا ، فأبي رحمه الله ولد يتيما من ابويه في زمن قل فيه المعين لقلة ذات يد الناس عامة ، فنشأ وترعرع أيام طفولته في بيت خاله صالح بن سعدان رحمه الله ليعيش كالأخ الشقيق مع أخويه محسن وسعيد رحمهم الله ، ولازالت المودة والمحبة بين الآسر الثلاث قائمة والحمد لله ، دائمة بإذن الله .

التقينا في الرياض قبل خمسين عاما ونحن طلاب ، فمنا قادم من الديرة وآخر من مكة المكرمة حيث تسكن أسرته ، إلا أننا ندرس في معهدين مختلفين ونسكن في مكانين متباعدين ، 

 اخذتني القدم ذات يوم  لزيارته في مقر سكنه ، وأظنه كان في حي الملز ، وفي جلسة بسيطة كان ثالثنا ابريق شاي ، دار بيننا حديث غريب ، ناقشنا فيه مسألة عامة نعتقد بأنها هامة ،  والأغرب من ذلك هو التزامنا بما اتفقنا عليه منذ تلك اللحظة إلى أن مات رحمه الله .

ناقشنا في تلك الجلسة جدوى ملامسة الخدود اثنا التحية عند لقاء شخصين ، وجدوى إطلاق القبلات في الهواء ، وكأننا نريد اسماع الأذنين صوت اشواقنا ، بينما قد يكون المعنى غير ذلك ، فالقبلات في الهواء دليل على أن لا هوى ، فقلنا لماذا لا يقتصر الناس  على المصافحة فقط فهي ابلغ وأنفع في تظرنا ذلك الوقت .

اتفقنا أن ننشر تلك الثقافة بين الناس والتي ولدت مع رشفات فناجين الشاي ، ولصعوبة الأمر في تغيير قناعات الناس ، قررنا أن نبدأ بأنفسنا ، وأن نكتفي بالمصافحة دون ملامسة خد أو عناق ، حتى وإن غبنا عن بعضنا أشهرا أو سنوات .

 لم نكن نعلم ان طريقتنا التي اتفقنا عليها هي الطريقة الصحيحة والفعل المقبول والمحمود عند لقاء الأحبة ، وقد يزاد العناق على ذلك ولكن عند القدوم من سفر ، وهذا ما درج عليه السلف عند التقائهم ببعضهم ، ففي الحديث : ما من مُسْلِمَين يتصافحان حين يلتقيان إلا غفر الله لهما ، وهذا وعدٌ عظيمٌ ، وخيرٌ كبيرٌ ، فمضينا في اتفاقنا دون إلغاء او تقليل لما درج عليه الناس في عاداتهم عند عودتهم من سفر او لقاء بعد غياب ، فوالله لا اذكر اننا التقينا منذ خمسين عاما وزدنا على المصافحة والابتسامة وتذكر العهد والإصرار على المضي فيه ، حتى وإن نسي أحدنا أحيانا ذكره صاحبه ودفعه ، حتى غدى الأمر طبيعيا كتنفس الهواء ، فوالله لم تُنقص هذه العادة من الود والمحبة بيننا شيئا ، بل جعلت من صداقتنا حالة فريدة زادتها قوة ومكانة . 

وهنا عجيبة أخرى من عجائب أبي محسن رحمه الله ، فقد كنا وفي العادة ونحن في الرياض ، وعند بدء الإجازات نجتمع ونتوزع في السيارات المتاحة عند السفر للديرة ، فأصحاب السيارات من بيننا قليل جدا ، وبما أن أخانا سعيد رحمه الله يسكن مكة مع  اسرته ، فقد قرر أن يركب مع جار لنا من أهل مكة ، كان يعمل في ورشة أجهزة بجوار سكننا في البطحاء ، بالقرب من عمارة السبيعي اول شارع المرقب .

انطلقنا في تلك الرحلة جميعا من الرياض باتجاه الطائف ، بعد أن ودعنا أخانا مع صاحبه على أمل أن نلتقي ، وعندما وصل الصاحبان الى الطائف حدثت عجيبة من العجائب ، فقد رأى أخونا سعيد ان يترك صاحبه في الطائف ، فبدلا من النزول معه لمكة قرر فجأة وبدون سابق تفكير أن يغير اتجاه البوصلة ويتجه للديرة ففعل ، على أن يعود إليها بعد أيام ، ولعل العجب لا ينتهي هنا ، فأسرة صاحبنا في مكة وليست في الديرة ، بل ليس في الديرة أحد من أقاربه ليكونوا أولى من والديه وأخته وإخوته ليبدأهما بالزيارة ، فلماذا اذا غيرت مسارك أيها الحبيب ؟ لم يكن ذلك القرار من تلقاء نفسك أبدا ، ولكن لحكمة أرادها ربك ، فسبحان من إذا قدر لطف ، ولعلها خبيئة كانت بينك وبين ربك لم تطلعنا أو تطلع  عليها أنت فنسيتها ، ولكن "علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " ، فما هي إلا ايام حتى شاهد اخونا سعيد إعلانا في التلفزيون عن وجود جثة رجل يرجى التعرف عليها ممن فقد أحدا من ذويه ، ثم وصف الإعلان نوع السيارة ولونها ، أما المكان فجبل الهدا ، حيث انحدرت السيارة وتردت بسائقها من أعلى الجبل لأسفله ، أما الوقت فكان بعد نزول أخينا سعيد من سيارة صاحبه بساعة أو أقل ، فما كان منه إلا أن ذهب لإدارة المرور فعرف أنه صاحبه ، فعرف حينها وعرفنا سر تغيير جهة السفر والنزول من تلك السيارة النعش  ، فالأجل لم يأت بعد وكما يقال : للسالم في البحر طريق ، ولكن كان هناك امرا ربما لم نفقهه في حينه ، فلرب صنيعة معروف لم ينسها مقدر الاقدار ، حتى وإن نسيها فاعلها ، فوقاه بها شر ذلك الحادث الرهيب . 

فسبحان من مد في عمر أبي محسن ليختار له الموت بعد خمسين عاما غرقا وليس بأمر أخر ، فلا أدري أهي خبيئة واحدة استمرت بركتها إلى يوم وفاته أم أن هناك سر آخر بينه وبين ربه ، استحق به  أن تختم حياته بخاتمة حسنه ، ليكون شهيدا بإذن الله ، فالغريق شهيد ، يقول صلى الله علبه وسلم في الحديث المتفق عليه : الشهداء خمسة : المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم ، والشهيد في سبيل الله .

فينبغي للمسلم الحرص على أن تكون له خبيئة من عمل صالح لا يعلم بها غيره ؛ لقول نبي الله صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل. فلندع لنا اعمالا خالصة لله لا تفضحها الكمرات ولا تنطق بها الافواه ولا يتحدث بها الناس فكل عمل صالح لا يعلم به الا الله فهو خبيئة  . 

رحم الله أبا محسن وعفى عنه ، وألهم أسرته وذويه الصبر والسلوان ، وجعل ما أصابه كفارة له ورفعة في درجاته ، وعوض محبيه عنه خيرًا في الدنيا والآخرة. 

علي بن سعد الزهراني

الأطاولة .. ١٤٤٦/٧/١١ ... ٢٠٢٥/١/١١

  

التصنيفات

هناك 5 تعليقات

  1. رحمك الله رحمة واسعة

    ردحذف
    الردود
    1. الله يغفر له و يرحمه رحمة واسعة من عنده ويصبر أحبته ويربط عليه لى قلوبهم

      حذف
  2. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  4. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript