بسم الله الرحمن الرحيم
حتى في أشد حالاته المًا لا تراه الا مبتسمـًا
عمل معنا في احدى مدارس الباحة ثم انتقل لمدرسة أخرى في مدينة جدة وعندما باشر عمله هناك فُوجئ بأمر غريب أذهله وكاد أن يفقده صوابه ، فما الذي حدث هناك ؟
كان المبنى المدرسي الذي كنّا نعمل فيه معًا في إحدى قرى منطقة الباحة مستأجرًا ، وكانت غُرَفه لاتكاد تكفي للفصول الدراسية والضروري من مستلزمات العمل التعليمي كمستودع الأثاث والوسائل التعليمية من لوحات ومختبر وخلافه .
كانت غرفة الادارة غرفة شاملة ، فهي إضافة لكونها مكتبا لمدير المدرسة إلا أنها تعد غرفة للمدرسين كذلك وهي المصلى لجميع منسوبي المدرسة معلمبن وعاملين وطلاب فقد كانت واسعة نسبيا وطلاب المدرسة كلهم آن ذاك قرابة الأربعين طالبا ، وهي ايضا غرفة الطعام حيث نتناول فيها فطورنا الجماعي وأحيانًا غداء المناسبات .
ذات يوم وفي هذه الحجرة الشاملة دخل علينا رجلُ بَهِيُّ الطلعة متقد الحماس باسم الثغر شجي الحديث ، نحن لانعرفه من قبل ولكن لدخوله المميز أرسل لعقولنا الباطنة أنه يعرفنا ونعرفه منذ سنوات ، فكلامه يدخل القلب دون استئذان ومطلعهُ يريح النفس وابتسامتهُ تَشرحُ الروح وبساطته تَجلِبُ السُّرور .
وماهي إلا لحظات حتى عرفنا أن الرجل معلمٌ جديدٌ انضم إلينا في تلك المدرسة ، فجلس من فوره بجوار مكتب المدير فعرّفَ بنفسه ثم أعقبناه بالتعريف بأنفسنا وما أن وصل الدور عند مدير المدرسة وقال اسمه حتى انفجر صاحبنا ضاحكًا وقال : سبحان الله ! انتقلت من مدرسة مديرها احمد الشيخ وهذه المدرسة مديرها أيضًا أحمد الشيخ فأي مصادفةٍ غريبةٍ هذه ؟! ، ثم أردف مازحًا : يبدو أن لا مناصَ ولا فكة فأحمد الشيخ وراي وراي .
وزِّعَ الجدول الدراسي علينا ولم نكن نحمل هم الصف الأول فقد كان هناك قاعدة في المدارس أن آخر معلم يعين في المدرسة يكون الصف الاول الابتدائي من نصيبه رضي أم لم يرض ، فقد كان المعلمون يتحاشون اختيارهم لهذه العقبة ، فالتدريس في المرحلة الابتدائية آن ذاك لا يخضع للتخصصات ، وعلى المعلم قبول ما يوكل إليه من مواد دون اعتراض ، ولكن مع ذلك قد يأتيك ما تتمنى من فضل بزهد غيرك فيه ، فرب قرار مؤلم في نظر من أقره يكون بلسما لدى مستقبله ، فقد فرح ذلك المعلم وحمد الله أن الصف الاول لازال شاغرًا .
محظوظون جدًا طلاب الصف الأول في تلك المدرسة وفي تلك السنة وما تلاها فقد كان هذا المعلم يقاتل كل عام للبقاء في مكانه و أن لا ينازعه أحد في صفه الذي أحبه فقد كان لهم كالأب ، بل كان غالبًا ما ينزل لمستوى تفكيرهم ورغباتهم ، فلا حرج لديه من أن تراه يلعب معهم ويرفع صوته لهم بالقصائد والاهازيج والمواويل ، فكانوا بتنافسون على القرب منه حتى في الدخول معه في فروته أيام الشتاء ، كان كثير المزاح معهم فلا تكاد تراهم الا متعلقين به ، هذا في يد وذاك في يد ، وحال جلوسه في الصف أو خارجه فإنك لا تكاد تراه فقد احاطوا به كالسوار بالمعصم .
كان إذا زار المدرسة أحدٔ وخاصة مشرفي المواد الدراسية للصفوف العليا فإنه يذهب إليه ويصر عليه أن يزور الصف الاول ، ليس ليريه مجهوده الذي لا ينكره أحد ، ولكن ليغرس في أرواح طلابه أنهم ورغم صغر سنهم معادلة صعبة ، فزوارهم كثير ومحبيهم غير وقدرهم عال ، ولو لم يكن مكسبهم الا التراحيب والفرح بالضيف الذي زارهم كلمحة تربوبة لكفى .
كان كثير الحديث عن عمه والذي كان وقتها مديرا لمدرسة اخرى ، وكان من شدة افتخاره به أنه لا يترك فرصة يذكر فيها موقف تربوي أو إداري إلا وذكره باسمه واسهب في وصفه حتى أنه غرس في أنفسنا فضولا ورغبة وحرصا أن نتعرف على عمه هذا ، فمثله مكسب أن يكون من معارفك ، كنت اتمنى معرفة عمه عن قرب ولم تتحقق امنيتي الا بعد سنوات ، فقد جمعني الله به كجيران في مكة المكرمة فانعم به من جار وأنعم به من زميلُ عملٍ ومربٍ فاضل .
لم يكن تميز أستاذنا بتعامله مع طلابه الصغار أو زملائه فقط ، فالأمانة والصدق والنصح ، له في ميادينها الواسعة الكثيرة خيل مسرجة ، وسحائب ممطرة ، ففي التجارة له سهم أجاد بِريِّهِ وأحسن رميه ، فكسب الذكر الحسن والصيت المستحق ، فقد كان تاجرًا متميزًا لا أذكر أن أحد عملائه كشف في بضاعته غشًا أو عيبًا ، وإذا وجد لديه أصناف أخرى لم يجهزها بيده بل اشتراها من السوق فإنه كان يوضح للمشتري بأنه لا يضمنها .
عندما بدأ العمل في عمارة له ولأسرته على الشارع العام كان يسافر من المدرسة نهاية كل أسبوع وعلى سيارته الهايلكس ، فيشتري احتياجاته من جده ويعود ، ومن باب المزاح معه قلت له ذات سبت حين كان وقتها أول أيام الأسبوع الدراسي : كيف مشترياتك هذه المرة ، إن شاء الله توفقت فيها ؟ رغم أن سيارتك في نظري قد انتهى عمرها الافتراضي وأصبحت كالعجوز التي أدت ما عليها في الحياة فيكفيها شرفا ان على ظهرها بنيت عمارة ! وحان وقت راحتها ، ابتسم ابتسامة الواثق وقال : هل تصدق أن هذه الدردعة في نظرك ـ وأشار الى كفرات سيارته ـ أنها وقفت ضحى اول أمس وبهذه الكفرات على أعتاب جسر البحرين ولو أن مشروع الجسر انتهى لعبرت بها الى البحرين ، فقد قادني الفضول من مدينة إلى أخرى ومن منطقة لمنطقة حتى وجدت نفسي هناك ، وبهذه المبروكة التي تحملتُها وحَمَلَتني وسَيّرتَها وسَرّتني حتى أصبَحَت مني بمكان الصديق الوفي .
وبعد سنوات كانت من اجمل السنوات الدراسية انتقل لمدينة جدة ، وعندما باشر في المدرسة التي عين بها فوجئ بامر غريب اذهله وكاد ان يفقد صوابه من هول المفاجأة فعندما قدم خطاب التعيين لمدير المدرسة لمح على الطاولة اسم المدير ثم أمسك برأسه وصرخ من هول ما رأى مدير المدرسة أحمد الشيخ .
لم يكن هذا المعلم الفاضل سوى الاستاذ الحبيب أبو تركي عبدالله بن عوض الجميل من أهالي بني سار عملت معه في مدرسة المكاتيم الابتدائية قبل ما يقارب 35 خمسة وثلاثين عاما اما عمه فهو المربي الفاضل والجار الوفي الأستاذ علي الجميل .
رحمك الله يا ابا تركي ، رحمك الله يامن كانت الابتسامة لا تفارق محياه ، رحمك الله أيها الاخ الحبيب وتقبلك في الصالحين وأعلى ذكرك في عليين وجعل مثواك الفردوس الأعلى من الجنة ، وأعان أسرتك وأحبابك على فراقك ، وألهمهم الصبر والسلوان وعوضهم عن فقدك خيرا .
هذا الفديو من رحلة قام بها منسوبو مدرسة المكاتيم الإبتدائية عام 1407 هـ ويظهر فيها الأستاذ عبدالله بن عوض الجميل رحمه الله تعالى ومعه الاساتذة أحمد صالح الشيخ من شبرقة وأحمد علي من القوارير وسعيد صالح من بالعلا وزعبي محمد من الحكمان وعلي سعد ومعيض حمدان من الاطاولة .
والطفلين اللذين اصبحا الان رجالا هما : عبدالرحمن أحمد صالح وعلي أحمد علي .
علي بن سعد الزهراني
الأطاولة في 1442/11/12هـ
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق