المشهد الأخير

بسم الله الرحمن الرحيم

تقفون والفُلك المسخَّرُ دائرٌ                  
    وَتُقَدِّرونَ فَتَضحَكُ الأَقدارُ

المشهد الأخير

لا أحد منا يجزم بتحقيق امله وان كنا بالامل نعيش ولاحلامنا نسعى ولما نطمح نجد ونجتهد ولكن كما يقال : على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب

يا آل الشيوخ "لاتحسبوه شرا لكم بل هو خير" فما اخذ الله منكم الا ليعطيكم وما احزنكم الا ليفرحكم فقط ثقوا برحمة ربكم وسيدهشكم بكرمه وعطائه .

اعظم الله اجرنا و اجركم يا ابا حسن ، فابنك ابننا وفقيدك فقيدنا  والمصاب مصابنا .
فالمصاب جلل ، والمفاجأة قاتلة والحزن طاغ ، واقسم بربي وربك انك لا تلام ، ولا عتب عليك ، فقد كان حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول :  ‏إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون 
في المقبرة رايت ابا حسن يتكئ على رجلين وهما يسندانه وكانما كسر ظهره ، ولا غرابه فحسن كان له الظهر والسند وكان له الساعد القوي والقلب النقي .
اعانك الله يا ابا حسن على فراق حبيبك ، اعرف مقدار المك وحزنك ، وادري بان نفسك تحدثك قائلة :( سبحان من بيده الامر  ، فبالامس كان يقف معي في مدخل الوادي التراثي ، يخدمني ويقوم معي ويحمل عني ويخفف علي ، واليوم بيدي ادفنه وبروحي ابكيه ، وبعيني اودعه ، احثو على قبره التراب واستودعه من هو ارحم به مني ومن والدته ومن الناس اجمعين .
حسن لم يكن شابا عاديا ليمر وداعه لدنيانا مرور الكرام ، فحسن شاب فاعل وذو بصمات نافعات  ، بها سيصل المنزل باذن الله ، فهو البار بوالديه ، المحب والحنون على اخوته واخواته ، الخدوم لجيرانه وجماعته ومن احتاج لمساعدته ، بل من عجيب امره انه يقتنص الفرص لذلك اقتناصا ، فلا يدع مجالا لذي حاجة ان يطلب مساعدته الا ينقض كالاسد الهصور يحمل حاجة هذا واغراض تلك .
قبل وفاته يوم وفاته رحمه الله اخذ والدته واخوته واخواته للتنزه ، كان كمن يودع احبابه ، كان شديد التعلق بوالدته فما ان يغيب نظره عنها الا وعاد اليها وكانه عايد من سفر ، يحتضنها ويقبل راسها ويديها واقدامها ، كانت تحاول ان يخفف عن نفسه ذلك الانطراح العجيب الغريب والذي لم يكن مستغربا منه ، ولكنه في تلك الساعة اكثر لها من ذلك الاحتفاء  فكان العجب .
 رحمك الله ياحسن ، هل كنت بهذا تودعها دون ان تشعر ؟ هل استشعرت امرا ما فخشيت ان يتفطر فؤادها عليك ، هل احسست بانك مفارقها بعد ساعات فرحمت ضعفها .


لم تكن تلك الارهاصات الوداعية مع اسرته هي الوحيدة بل كان هناك ما يدهش العقول ويسلب الالباب ، ففي مدخل الوادي التراثي كان له جولات وجولات من حسن الخلق وايثار على النفس وكرم مع الاطفال وبذل مع الرجال والنساء مع الكبار والصغار مع من يعرفهم ومن لا يعرفهم ،كان يضع ضمن محتويات بسطته كثيرا من الحلوى يقدمها للاطفال دون مقابل فاحبوه وتعلقوا به  . 
كان يتعهد من لا عائل لهم من جيرانه وخاصة النساء الارامل فيبادرهم بعرض خدماته واصراره على ان يامروه ولا يسالوه فحصد منهم الدعوات الخالصات . 
هنيئا لك ياحسن فحبيك محمد صلى الله عليه وسلم يقول : "الساعي على الارملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله او كالصايم لا يفطر والقائم لا يفتر" ، هنيئا لك اختيار الله لك لتنال هذا الفضل العظيم والذي قد يسبق في الاجر كثير من العبادات  .
عند بداية العمل في مشروع الوادي التراثي كنت اراه في وقت مبكر جدا ، فقد كان حسن في غالب وقته معي فكنت اسأله مستغربا ، فهو الشاب الذي يفترض ان يكون كأقرانه نائما في هذا الوقت ، وعندما اساله لم انت هنا ؟ فيجيبني  كنت في الجامع القديم فانا من يرفع الاذان فيه 
اخبرني بانه احيانا كثيرة يكون في المسجد او بقربه كحارس ليلي متطوع وذلك بعد ان لاحظ ان اناسا يدخلون المسجد للعبث به وذلك قبل ترميمة ضمن المساجد التاريخية والتي اعيد الاهتمام بها واعادة تأهيلها بأمر ولي العهد حفظه الله ، فقد كان هذا الجامع عامرا بالصلوات منذ تاسيسه قبل مئات السنين الى اليوم ولم ينقطع الاذان منه والصلاة فيه ابدا رغم رحيل جيرانه لاماكن اخرى ومنذ عقود . 
في مجلس العزاء دنوت من ابيه معزيا وحاثا اياه على الصبر وذاكرا له بعضا من فضائل حسن وهو اعلم واعرف مني بابنه ولكن من باب ان يسمع الثناء عليه من الناس ، كنت اقول له ان حسن  قد قدم الى خير باذن الله فمحبة الناس لحسن ومحبته لهم  لم تكن من فراغ ولن تذهب سدى. 
قال لي : الحمد لله فوالله انني لا احصي عدد من اتصل بي ممن لا اعرفهم رجالا ونساء ،فعندما اسالهم يقولون انت لا تعرفنا وحسن كذلك لا يعرفنا ،ولكن نحن نعرف حسن بدماثة خلقة وحسن تعامله وبشاشة وجهه  فقلت له : هذا من عاجل البشرى لكم فالناس شهود الله في ارضه .
اخبرني ان حسن بعد ان عاد هو ووالدته واخوته واخواته من نزهتهم وقد ادخل السرور عليهم تناول طعام العشاء فنام . 
واصل والده الحديث بقوله : في الصباح ناديته كالعادة فلم يجب ،وفي العادة بمجرد ان اقول حسن الا ويجيبني في لحظات ، اذ ينام في غرفته في الدور الثاني ولكنه لم يجب ، فاضطررت للصعود اليه لاجده قد اسلم روحه والحمد لله .
صحيح ان موته احزننا والمنا وكسر ظهورنا ولكن الحمد لله انه مات على فراشه ونحن بجواره و ونحن في قمة الرضى عنه
نام حسن ليسدل الستار عن اخر مشهد له في حياته ، مشهد لم يخطط له ولم يحسب له حساب ولكن الله ان اراد امرا هيئا له اسبابه  ، نام ليستعد في صباح اليوم التالي للسفر لاستلام عمله في المنطقة الشرقية ، نام وفي ذاكرته احلام المستقبل الواعد ، ولكن كما يقال وتقدرون وتضحك الاقدار فالخيرة فيما يختاره الله .
لقد هيئا الله لحسن في المشهد الاخير خلق كثير قد لا يعرف بعضهم ، اتوا من قرى مختلفة ليشهدوا دفنه والصلاة عليه وفي ذلك اشارة خير ودلالة رحمة ، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم :  "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه" .
فاللهم شفع فيه عبادك واجعل ما اصابه كفارة له وعوضه عن شبابه بجنة عرضها السموات والارض ، اللهم يسر حسابه ويمن كتابه وجازه بالحسنات احسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا ، اللهم توله بعفوك ورحمتك وكرمك ، اللهم كما ادخل السرور على من عرفه ومن لم يعرفه فوق الارض فادخل السرور عليه تحت الارض ويوم العرض ، اكرم نزله ووسع مدخله ورضه بما انت اهله فانت اهل التقوى وأهل المغفرة .
حسن اليوم كغيره من اموات المسلمين يحتاج الى الدعاء ثم الدعاء ثم الدعاء ، فاجتهدوا له فانه رحمه الله اهل لذلك .

علي بن سعد الزهراني 
الأطاولة 1442/12/24

 

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript