دموع التراسيل (الجزء الثاني)


دموع التراسيل 
( من قصص بيوت الحمد )

الجزء الثاني

عاد الاب ذات مساء الى القرية كعادته ..ولكنه عندما دخل  بيته وجد مالم يكن يتوقعه ابدا ..لقد وجد ابنته التي كانت تقوم على البيت في غياب والدتها  طريحة الفراش ..تئن من الالم ..فما ان اقترب منها  ..حتى علم بأنها تحمل نفس مرض شقيقتها ..فاعراض المرض هي الاعراض .والالام هي الالام .. دنى منها وقبل جبينها ثم استرجع وقال : الحمد لله على كل حال ..لم يحتمل أن يراها بتلك الحالة .. وهذا حال الوالدين  ..فحملها في اليوم التالي على الفور ..وعاد بها من حيث اتى ..بعد أن أوصى عجوزا في القرية بأن تأتي كل مساء لتقضي الليل أو بعضه مع اطفاله.

عاد الاب في اليوم التالي الى الطائف بصحبة ابنته ..فتم تنويمها مع شقيقتها لتقوم امهما برعايتهما سويا .. وذلك لما يقارب العام  ..ابتلاء  عظيم قل ان يطيقه أحد .. ولكن هل وقف الحال هنا ؟ وهل تحسن في الوضع شيء ؟..وهل ظهر في الأفق بارقة أمل ؟.. لا ..لم يتغير شيء ابدا ..ولم تقف الاحداث عند هذه النقطة.. فالزمان لايزال مليء بالمفاجآت .. فهاهي اقدار الله ابت الا ان تزيد في عناء تلك الاسرة وابتلائها بابتلاء جديد ..ومحك في الصبر أكيد ..ولكن لعل الله اراد بذلك خيرا ..

فقد تطلب الامر وعلى وجه السرعة بان تنقل المريضة الاولى الى مدينة جدة .. فأصبح الحال على الوالدين صعب جدا .. مما جعل الام تتنقل بين ابنتيها .. وتقسم وقتها بين حبيبتيها ..فهنا اسبوع وهناك اسبوع ..وعلى الاب ايضا ان يتنقل هو الاخر ..بين بيته واطفاله في القرية ..وعمله في مدينة اخرى.. وبين مدينتين بعيدتين متباعدتين ..كان السفر اليهما  في ذلك الزمن يعد من العذاب ..

فجزا الله هذين الوالدين على صبرهما وتعبهما ومعاناتهما خيرا  .. فلم يكن والله ما لقياه  في هذا السبيل الا رحمة بهما ..حتى وان كان ظاهر الامر غير ذلك ..فالله سبحانه وتعالى ارحم بعبده من أمه وأبيه ..بل هو والله أرحم به من نفسه ..فنسأل الله تعالى ان يكون ذلك العناء والصبر رفعة في درجاتهما .

فهاهي الايام تمضي  ..وصحة ابنتهم الصغرى تزداد تدهورا ..حتى جآء ذلك اليوم الذي لامناص منه .. لتعلن تلك الفتاة الشابة ذات العشرين ربيعا ترجلها عن فرس الحياة .. فهاهي تودع الدنيا ..وكأن روحها تحلق في فضاء المكان لتصافح والديها وتقبل رأسيهما .. مودعة معتذرة شاكرة .. قائلة : شكرا لكما  وجزاكما الله خيرا على ما قدمتموه لي من رعاية واهتمام.. فقد جآء الوقت الذي سأفتقد فيه زيارتكما.. وسأفتقد فيه لذة قربكما ودفء قلبيكما ..فعذرا ثم عذرا ثم عذرا .. لكل لحظة الم  ولكل ساعة عناء  قد تجشمتموها من أجلي ..فإلى لقاء  قريب ان شاء الله في جنة عرضها السماء والارض .

نعم لقد ماتت بعيدا عن بيتها ..بعيدا عن أسرتها .. لتنهمر دموع الحزن واللوعة .. فقد خرجت من بيتها على امل العودة ..فكل مافي البيت كان ينتظرها بشوق عارم ..ولكن ارادة الله أبت الا الفراق .. دفنت رحمها الله  في مكة المكرمة ..ليعود أبويها الى شقيقتها المريضة في مدينة الطائف ..فلعل الله ان يجعل عزاءهما في شفائها وخروجها من المستشفى ..

وما هي الا ايام حتى قرر الاطباء  خروج ابنتهم فقد تحسنت حالتها  ..فرح الابوين بذلك الخبر غاية الفرح ..فعادوا الى القرية ومعهم ابنتهم .. وفبعد عام تقريبا  يعود اليها المرض وبشكل فجائي ليلهبها بسياطه  .. وينهكها بالامه وقسوته..فلم يمهلها كثيرا.. فقد اشتد بها حتى أسلمت روحها لخالقها.. فماتت في منزلها .. ذلك المنزل الذي احبته وأحبها .. فلها فيه  حكايات وحكايات .. عادت لتكون نهايتها هناك .. حيث مصحفها وسجادتها  فهناك شوق دفين لايعلمه سوى مقدر الاقدار .. عادت ليودعها كل شيء في البيت .. فهاهي الجدران والابواب والنوافذ والزوايا تكاد تخرج من حزنها ان تتهدم .

حُملت جنازتها على الاكتاف وقبل ان تخرج من البيت .. استوقفتها مجموعة الواح خشبية واقفة ..وقد أصطفت على حافة رعش البيت  وكأنما هي تؤدي  دورها في مراسم الوداع  .. نظرت الى ذلك الجسد المسجى على النعش ..فتحدثت اليه حديث الارواح للارواح .. بشعور وفي  ودمع خفي  : قائلة : الى أين المسير ؟ فلطالما حفظتكن بقدرالله  في طفولتكن .. ولطالما كنت سترا لكن في شبابكن .. فقد رددت عنكن بقدر الله  من مخاطر الحياة الكثير الكثير .. وكنت أظن بغروري بانني سأحميكن من كل شيء ..  فاليوم اعلن لكن عجزي واعتذر منكن أشد الاعتذار.. فلاطاقة لي في رد قضاء الله وقدره  ..فهاهي شقيقتك تموت بعيدا عني دون علمي.. وها انت تموتين أيتها الغالية بقربي ..دون ان استطيع حمايتك .. فلا طاقة لي والله بمنع رسل ربي  ..فلكل أجل كتاب ..فمعذرة ثم معذرة ثم معذرة ..

خرجت الجنازة من البيت ليعم المكان حزن فريد .. فلو يعلم المعزّون بلوعته وحزنه وحسرته  ..لقدموا له العزاء تلو العزاء ..فدموع المكان لاتقل حرقة والما عن دموع الانسان .
فرحم الله الشقيقتين ورحم الله والديهن وجزاهم بما صبروا على فقدهن وعلى معالجتهن ورعايتهن خيرا. وجمعهم  في جنات النعيم .


...... انتهت ......

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript