نورة .. زهرة على ضفاف وادي تربة



بسم الله الرحمن الرحيم

نورة

زهرة على ضفاف وادي تربة*

نورة فتاة صغيرة عاشت طفولتها كأفضل ما يمكن أن يعيشه الأطفال .. فرح وسرور وسعادة وحبور ..لم يزاحمها في أحضان والديها أحد أبدا ..مهما كانت قرابته ومنزلته فقد عاشت بمفردها بين يدي أمها وأبيها لا ينازعها في حنانهما وعاطفتهما منازع ..فهي أميرة البيت التي يجبى لها كل شيء دون أن تسأل من أين وكيف .. ورغم أنها لم تكن وحيدتهما إلا أنها قد تربعت هناك كملكة على عرش من نوع خاص لا ينافسها في سلطانها فيه أحد أبدا .

ليس هذا باللغز المحير الذي يصعب حله وليست بألاحجية المستعصية على أولي الألباب .. فلدى نورة أخ وأخوات من أبيها هي في عمر الصغار من أولادهم ..ولديها من أمها أخوات متزوجات ..فهي تنعم بتفرغ أبويها لتلبية كل احتياجاتها الحسية والمعنوية .. الجسدية والنفسية ..فقد حشدا جل اهتمامهما نحو زهرتهما الغالية نورة ..والتي ملأت حياتهما بالأمل والحب والسعادة .  

عاشت نورة مع أبيها وأمها في بيت صغير متواضع ..يقع على ضفاف وادي تربة ..وتحيط به المزارع الجميلة ذات الأشجار الوارفة المثمرة ..وقد اكتسى أديم الأرض بخمائل ندية مبهجة .

تربع ذلك البيت الصغير على رابية منبسطة تحيط بها الجبال الشاهقة المكسوة بالخضرة الناضرة ..فلا يكاد الواقف أن يرمي بصره لجهة من الجهات إلا ويرى جمالا ساحرا وطبيعة خلابة .. فكأنما ذلك البيت وما يحيط به جزيرة في بحر .. فهو على رابية ترتفع قليلا عن الوادي المحيط بها  في ملتقى فلقتي ذلك الوادي الشهير مما يزيد المكان روعة وجمالا .

كان ذلك المكان بجماله الأخاذ أشبه بحديقة غناء ..كانت تتنقل نورة بين أزهارها وجداولها وطرقاتها كأجمل ما ترى من الفراشات ..لاتكاد تستقر على زهرة حتى تغادرها إلى زهرة أجمل وأبهى .. ولو لم يكن لها سوى شعورها بدفء القرب من والديها لكفى ..فهي ترى بان الدنيا قد حيزت لها بحذافيرها .. كيف لا وذلك المكان في نظرها هو العالم كله.

لم يمهل القدر نورة لتستكمل سعادتها واستمتاعها بكل تلك المملكة التي قد حازتها برمتها دون عناء .. فبينما هي في أوج سعادتها بما حباها الله من نعمة .. حتى فاجأها القدر بمرض والدها ..وأصبح لزاما على تلك الأسرة الصغيرة السعيدة أن تغادر ذلك المكان الجميل الهادئ ببساطته وجماله ..وأن يبقى ضمن الذكريات الجميلة المحفورة في أعماق الذاكرة ..والتي يحن إليها كل من عاشها بوجدانه قبل أن يعيشها بجسده .

فقد كانت نورة أكثر التصاقا بأبيها ..حيث كانت تصحبه في كل مكان فلا تكاد تراهما مفترقين .. فإن ذهب إلى عمله كانت زميلته ..وإن أراد السوق كانت رفيقته .. وإن ذهب لمزرعته كانت عوينته .. وان عاد إلى البيت كانت مضيفته ..وان جلس للحديث كانت جليسته .. حياة ماتعة هانئة ..حالمة هادئة .. لا يشوبها في ذلك المكان شائبة.

 لم يكن سهلا على تلك الأسرة استبدال تلك الحياة المؤنسة بصخب المدينة وضجيجها.. وبروتين الحياة الحضرية وتعقيداتها ..فلم يكن لنورة حينئذ بد من الرضوخ والقبول بالوضع الجديد ..فحبيبها الذي كانت تتلذذ بذلك المكان معه قد أصبح طريح الفراش ..مما جعل تلك الفراشة عاجزة عن الانطلاق كعادتها ..بعد ان رأت سبب سعادتها وأنسها في أمس الحاجة الى الرعاية والعناية ..ولن يتم له ذلك الا بانتقالهم الى عالم المدينة .. حيث يسكن أخوها وأسرته .

وبعد عدة سنوات من معاناة والدها في مرضه ..فارق رحمه الله تعالى الحياة..حينها أحست بل أيقنت بأن جزءا كبيرا من عرشها الذي اعتلته قد تهدم ..فلا أحد يقوم مقام الوالد أبدا حتى وإن اجتمع لها كل من في الأرض ..فللوالد عند أولاده مكان لايرتقي إليه احد أبدا مهما كانت عاطفته ومحبته واهتمامه .

اضطرت حينذاك للعودة لمنطقتها والعيش بالقرب من أخوالها ..في الوقت الذي كانت فيه قريبة بعيدة عن مهد طفولتها ..وكأني بها تتمنى أن تملك جناحين لتطير بهما إلى تلك المملكة التي حكمتها في يوم من الأيام ..فهاهي كلما رأت عصفورا هنأته بالتنقل حيث يشاء ..وكلما رأت فراشة تذكرت عالمها الطفولي ..حتى أصبح أي شيء يذكرها بكل شيء.. الماء والهواء والليل والنهار والشمس والقمر والأشجار والأمطار والثمار والأزهار .

مرت الأعوام سريعا ..لتكبر نورة ويكبر معها شوقها وحنينها الى مرابع طفولتها ..فهاهي تكاد أن تطير فرحا عندما أرادت والدتها أن تصطحبها الى ذلك البيت الصغير.. ليأخذن منه كل ما يخصهما من ملابس وكماليات  قد لايكون في بقائيها هناك مصلحة فأخذها للاستفادة منها أولى وأفضل من تركها .

 ركبت نورة السيارة بسرعة خاطفة.. فقد سبقها قلبها إلى هناك .. لم يسبقها بسبب خوفه من أن يسقط فرحا من مكانه .. أو أن يذوب وجدا لتلك الرحلة التي طالما انتظرها ..ولكنه سبقها ليكون في استقبالها هناك .. أليست أميرة ذلك المكان ومن حقها أن تحضى باستقبال لائق بها .. وهل هناك أعظم من استقبال القلوب لأحبابها .. انطلقت السيارة ترفعها النجاد وتخفضها الوهاد ..و تكاد نورة أن تخرج من بين الجميع لتحلق في فضاء ذلك الوادي .. فما أن وصلت حتى ارتمت في أحضان المكان ..وكأنها تريد أن تلثم كل ذرة فيه وتقبل كل شبر منه .. فتركت أمها في شأنها فانطلقت هي إلى حيث يقودها ويوجهها قلبها ..فقد انطلقت نورة حال وصولها وكأنها أطلقت من سجن كئيب .

لم تشعر بنفسها إلا وهي تتنقل بين أشجار مزرعتها .. سارحة بفكرها بعيدا بعيدا.. لم تدع مكانا يذكرها بطفولتها إلا ووضعت فيه أقدامها ..وأرسلت فيه نظرة تأمل عميقة ..تحدث نفسها وتناجي ذاكرتها ..فهنا مشيت وهنا ركضت ..وهنا سقطت وهنا جلست .. وهنا ضحكت وهنا بكيت ..وهنا كان يجلس أبي وهنا كان يطعمني من ثمار بستانه .. وهنا كان يداعبني وهنا كان يغضبني ..وهنا كان يرضيني ويمسح دمعتي ..  ومن هنا كان يحملني على كتفه بعد أن ينهي سقاية مزرعته ..أفكار متسارعة متلاحقة لاتكاد تثبت في الذهن ..فالوقت قصير والذكريات غزيرة وأمواج الأشجان متلاطمة .

دخلت بيتها لتجمع أشياءها مع أمها ..ولكنها لم تشغل نفسها في الواقع إلا بتجميع ذكرياتها داخل ذلك البيت.. ففي كل زاوية من زواياه ذكرى جميلة ..فعند كل جدار همسة وحول كل نافذة مشهد .. وعلى كل باب مفتاح أمل  ومع كل نسمة هواء طيف حلم .. فكأنها وهي تنقل خطواتها  داخل غرف البيت وممراته .. تحدثه ويحدثها تشكو إليه ويشكو إليها  تبث إليه شوقها وحنينها ..ويشكو إليها هجره ونسيانه .. فلم تستطع بعد ذلك الحديث أن تحمل منه شيئا..فقد أحست بأنها إن أخذت شيئا فإنها ستكون كمن ينتزع منه روحا قد عادت إليه لتوها بعد طول انتظار .. فاعتذرت منه وخففت عنه وأعادت له الفرح والبهجة ..بعد ان استودعته كل ماتحب من أشيائها .

خرجت نورة من بيتها لاتكاد تحمل من متاعها شيئا .. غير عابئة بعتاب أمها على ترك ما أتت من اجل أن تأخذه ..فوقفت مدافعة عن نفسها وعن قرارها بقوة الواثق من صواب رأيه ..فعجبا لها ثم عجب ..ءلشيء أخر أتت نورة إذا ؟! فما الذي جآء بها وهي بالأمس تمني نفسها بالعودة بكل شيء يخصها .. نعم إن هناك أمر لم تفصح به ..ليس خجلا ولا كسلا ..بل كان خوفا من الملام فكما يقال " الصب تفضحه عيونه " لم يشاهد أحد عيون نورة ..فقد أخفتهما تحت خمارها لتعبرعن مشاعرها الدفينة بطريقة لاتخفى على أحد عند وداع أعز الأحباب ..ورغم مداراتها لمشاعرها  الا ان ذلك الشعور وتلك الاحاسيس قد جاوزت حدود التحمل ..فأصبح الصبر عزيزا فأفصح اللسان بما يختلج في الجنان ..فأخرجت لسامعيها كلمة هي ابلغ من كل خطاب..  كلمة حق للزمان والمكان بل ولكل إنسان أن يصغي لها سمعه  ..فالمسألة لدى نورة ليست مجرد العاب وملابس وأشياء محسوسة ..تستطيع استبدالها بما تريد .. بل الامر عندها أعظم من ذلك وأولى ..انه أمر معنوي قد خالط وجدانها وكل ذرة من كيانها ..ولكن اين من يشعر بما تشعر به نورة ؟! .

لم تحمل من ألعابها شيئا رغم أن لها معها ذكريات جميلة .. ولم تأخذها لتحفظها معها بدلا من ذلك المكان المهجور .. ولم تأخذها برغم علمها بأنها ستقع في مصيدة استغراب وعتاب من الجميع ..فلم تتردد في إعلان رأيها بقوة ..حتى وإن لم يقتنع به كل البشر.. فرددت على مسامع الجميع بأنها لم ولن تترك أشياءها عبثا .. بل تركتها كما تقول : لان "هذا البيت أفضل وآمن مكان " فقطعت بهذه الكلمات القليلات كل نقاش ..كما قطعت قبلها جهيزة قول كل خطيب .

فسبحان الله أيكون المكان البعيد المهجور أيتها الصغيرة أكثر أمنا من مكان تعيشين فيه وترقبين فيه أشياءك صبح مساء ؟.. ايعقل ان تكون فتاة مثل نورة تفكر هكذا وكأنها لاتميز في مفهوم الامان بين مكانين متناقضين .. نعم فان لها قناعتها التي لم ولن تساوم فيها ابدا .. فهي لم تقل ذلك الكلام من فراغ.. فلديها شعور بان هذا البيت وبرغم بعده عنها وبعدها عنه ..وبرغم انه اصبح مهجورا كما يقال .. فانه لا يزال بيتها الذي لاتعترف ببيت سواه ..فشعرت بارتباطها الوجداني بل والجسدي أيضا بكل ذرة فيه ..فكانت رسالتها صرخة مدوية ارتج منها فضاء ذلك الوادي .. انها رسالة خرجت من فم نورة ولكنها في حقيقة الأمر قد خرجت من أعماق أعماقها .

خرجت نورة حاملة بيدها القليل القليل .. ولواستطاعت لما حملت شيئا أبدا فيكفيها ما تحمل في قلبها الصغير ..فقد احتمل أكثر من طاقته .. حمل حبا جارفا لذلك المكان لا يعادله حب .. ووعدا وميثاقا ثقيلا بالمعاودة ولو بعد حين .. متحدية في سريرتها كل من سيعاتبها أو يعذلها في ذلك الحب  والارتباط بالمكان..والذي لا يحسه ويشعر به إلا القلة القليلة من البشر ..

لم يشعر أحد بما شعرت به نورة تجاه بيتها ومراتع طفولتها..فهناك عالمها الفسيح الذي أبعدتها عنه قسوة الحياة ..ولكنها ولوحدها عاشت تلك اللحظات القليلة بطريقة مختلفة ..فهاهي في طريق العودة تسبح في عالم آخر ..هائمة في ذلك الفضاء الواسع ..تمني نفسها بالبقاء هناك .. وتقول بلسان حالها لكل من حولها ولكل من يعرفها ..يا من استنكرتم علي هذا ..أتعاتبونني على ترك حطام لا يقدم ولا يؤخر.. فكيف بكم لو تعلمون حقيقة ما أخفيه عنكم  ..فإنني قد تركت هناك وبكامل رغبتي ومحبتي .. ما هو أعظم وأكبر وأغلى من كل تلك الكماليات ..رغم أن ألعابي لا تقدر لدي بمال ..فقد تركت ما هو أغلى وأنفس منها ..فتركت مالا يمكن أن تصدقوه أبدا ..فإن شئتم صدقوا أو لا تصدقوا ..فإنني قد تركت قلبي كله هناك .

علي بن سعد ساعد

الاطاولة 27/3/1432هـ

 

* رزقت نورة بطفلها الأول والذي اسمته  ووالده بـ (الوليد)  .. فقد تزوجت من ابن خالها بعد سنوات من قصتها هذه ، فاللهم اجعله لهما وليد سعادة وأنس ، وارزقهما بره وأقر أعينهما بصلاحه .


TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript