ماتت ثم عادت


بسم الله الرحمن الرحيم 

مات ابوها وهي في بطن امها ثم ماتت امها وهي ابنة ثلاث سنوات

انها اليتيمة التي ماتت ثم عادت

ماتت ثم عادت

 انطلقت في هذه الحياة منذ طفولتها تتجرع كثيرا من مرراتها وتتذوق قليلا من حلاوتها ، فالفقد والحرمان وخاصة فقد الوالدين في وقت مبكر سيخلق في حياة الاولاد دون شك معاناة لا يشعر بها الا من فقدها واكتوى بنارها ، وتبقى حكمة الله في صناعة اولائك الايتام لمستقبل ذو شدة والم ، ليس لايلامهم وعذابهم فالله ارحم بهم من امهاتهم وابائهم ولكن تمحيصا لرفع الدرجات ومضاعفة الحسنات وارهاصا لحياة افضل واجمل .

نعم ماتت امنا فاطمة بنت مبارك رحمها الله ليلة الجمعة ، ثم عادت لبيتها عصر ذلك اليوم لتبقى امام نواظر احبابها ، تعيش في ارواحهم وتأنس بقربهم ، ويسعدوا بجوارها وكانها لم ترحل بعد .

نعم عادت لبيتها بعد ان غادرته قبل اسابيع للعلاج والرعاية الطبية المتخصصة في المستشفى ، فقد كانت هناك على موعد مع الاجل وليس مع الدواء ، فقد قدر لها في المكان والزمان بل في اللحظة والنقطة ذاتها ان تلتقي هناك بملك الموت ، مرسول ربها الذي جاء ليقبض روحا طالما عانت وتعبت ، واعطت وانفقت ، وحنت واشفقت .

امنا فاطمة لم تكن بدعا من النساء او الرجال من ابائنا واجدادنا  فمكابدة العيش ومعاناة الحياة لا يكاد ينجو منها احد في زمن صعب ومكان اصعب  فلم يولد احد في ذات الزمان وفي فيه ملعقة من ذهب فالكل ولدوا من رحم المعاناة .

نعم عادت لبيتها بعد موتها رحمها الله فما سر تلك العودة ؟

دخلت جامع الاطاولة عصر يوم الجمعة الموافق 1443/5/20 لصلاة العصر ثم الصلاة على جثمان الفقيدة الغالية رحمها الله تعالى ، وهي ام الاستاذ محمد بن سعيد البصيلي ( الهرش) واخيه الدكتور عبدالله وشقيقاتهم الفاضلات .

دخلت فوجدت ابناءها واقاربها وقد اصطفوا داخل المسجد ليتلقوا العزاء في فقيدتهم رحمها الله ، فلعلهم راوا ان لا يكلفوا على الناس بحضور الدفن ، فهذا الوضع يعد حالة استثنائة لمن بعد مزاره او لمسافر عابر  ، اما اهلنا وجماعتنا وخاصة المقيمين فمن باب العلاقة الاجتماعية والاسرية  فان الاكتفاء بالعزاء في المسجد سيفوت عليهم اجر عظيم كحضور الدفن ومساعدة اهل المصاب في ذلك والدعاء للميت عند القبر ، كما ان قمة الحزن عند اهل الميت انما تكون عند نفضهم لايديهم من غبار القبر  فهم في تلك اللحظة احوج ما يكونوا لقلوب محبة وارواح مواسية واحاسيس مسانده ووجدان يفيض ودا ورحمة يحتضنهم ويخفف عنهم ومشاعر تنطلق حرة في فضاء المكان وتنتشر دون حد او عد .

قضيت الصلاة  وحمل النعش وانطلق به حاملوه الى مقبرة صغيرة جدا ملاصقة بمدخل منزلها انزل النعش من على المناكب والرقاب ليكون بيتها وما حوله في استقبالها فبعد ان ودعها بالامس هاهو اليوم  يستقبلها بابتسامة الرضا  وفرح اللقاء فالعلاقة بالمكان لا تقل حنينا عن العلاقة بالانسان ، عادت لتجاور زوجها واولادها الذي سبقوها في ذات المكان منذ زمن طويل وهما ابنة وابنين ،  عادت للمكان الذي طالما انس بها وانست به وطالما ارسلت اليه نظراتها واسمعته دعواتها وتحدثت الى ساكنيه وكانها تجالسهم صبح مساء تخبرهم بلسان حالها عن اخبار استجدت بعدهم  تخبرهم عن افراحها ببنيها وبناتها وعن كل جديد يمر بحياتها تداري عنهم احزانها والامها وكانها تقول لهم .

لا عليكم هي الدنيا وهذه حالها رحلتم عنها ونحن على خطاكم سائرون .

كثير من الناس تصيبه وحشة ورهبة من مجاورة المقابر بل احيانا من المرور بجوارها ولكن هنا تيقنت بان الوضع مختلف جدا .

فسعادة الاحياء من اهل هذا البيت بجوار احبابهم وهم يمرون عليهم في اليوم الواحد مرات ومرات يقرئونهم السلام ويستشعرون ردهم ، يدعون لهم ويتذكرون ايامهم الخوالي ويوقنون بان ذلك السور البسيط الذي يعزلهم حسيا لا معنويا كان لا وجود له 

سالت ابا عبدالله الاستاذ محمد وقلت كيف مشاعرك وانت ما ان تفتح الباب او النافذة الا وتراهم امامك قال لي والله انني اكون في غاية السرور واستشعر وجودهم معي احياء وكاننا نجلس مع بعضنا ونتبادل اطراف الحديث .

هكذا رأيت المشهد وهكذا اوحى الي بالكتابة فتاملت وكتبت  ماتت ثم عادت فرحمها الله رحمة واسعة والهم اولادها بنين وبنات وكافة ذويها الصبر والسلوان . 

المقبرة الصغيرة عند مدخل البيت 
الاستاذ محمد يشير بيده من مدخل البيت لقبر اخويه واخته رحمهم الله 

علي بن سعد الزهراني 

الاطاولة 1443/5/24

TAG

هناك تعليق واحد

  1. نعم رحم الله أمنا فاطمه وأحسن الله عزاء أخي محمد وعبدالله في الفقيدة وهنيئاً لهم هذا البر حتى بعد الموت.
    وشكراً للابن البار لبلدة الأطاولة وصاحب النظرة المختلفة للاشياء والقلم المتميز ابا عبدالله دائماً ما يسجل موقف ويضع بصمة تجاه الزمان والمكان والإنسان بالأطاولة.

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript