الدمعة الباردة

أبشروا ، فقد رأيت فقيدنا رحمه الله ذات يوم ، وهو يمسح دمعة باردة ندت من عينه لانجازه مهمة عظيمة هي عند الله افضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة* .

الدمعة الباردة

لن اكتب أو أتكلم عن كرمه ، ولاعن شهامته ولا عن صلته وتواصله ومحبته ، ولا عن تربيته لأبنائه وطلابه ، ولا عن سجاياه الكثيرة ، والتي إن نسيها البشر فلن ينساها رب البشر ، ولكن هي لقطة من حياته ، أحببت أن نستشعل من قبسها ، فكم نحن وابناؤنا في حاجة لها ، فهي درس ثري من معلم أبي .

بسم الله الرحمن الرحيم 

ليست كل الدموع سواء ، فهناك دموع ساخنة تحرق الفؤاد قبل أن تحرق الوجنات ، وتشق اخاديد في الأرواح قبل أن ترسم أثرا في المحاجر والخدود ، وهناك دموع كالماء البارد والبرد المتساقط ، وكالثلج النقي على الصدر الضمئ ، تخرج لفرح وبفرح دون استئذان ، وكأنها تتراقص طربا وأنسا على سحنات وجوه أبية بهية  .

يقول الحسن البصري رحمه الله : لا أظن أن الله يعذب رجلاً استغفر ، إذ كيف يلهمه الإستغفار ويريد به أذى ؟! "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون". وهذا هو الحال مع كل من أراد الله به خيرا ، فإنه يلهمه الفعل ثم يسدده وييسر له دربه ، ويذلل له الصعاب فتهون امامه العقبات .

إن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده ، خبير بأحوالهم ، يفرح بهم وبإنابتهم إليه ،  فمن تقدم إليه شبرا تقدم اليه باعا ، ومن اتاه يمشي اتاه هروله .

فالله سبحانه وتعالى لم يجعل من كثرة العمل تذكرة مرور لجنته ، ولكن جعل مفاتيحها منوطة بسلامة القلب ، فمن اتاه يوم القيامة بقلب سليم من الشحناء والقطيعة والحقد وغمط الناس ، وأكل أموالهم بالباطل وإنكار الفضل والود لذوي القربى والرحم  ، كان من أهل الجنة حتى وإن قل عمله .

كثر في هذا الزمان مرض عضال وشر طال واستطال ، ، تزايدت القطيعة بين الناس ، بل بين الاخوة الأشقاء من أجل حطام لا يغني ، ومكاسب لا تجدي ، ولعل هذه  الكثرة من الفعال قد أتت في زمان انشغل فيه الناس عن معالي الأمور ، ذات العظيم من الأجور ، فلربما كانت سببا أنزله الله ليبتلي عبادا له قد اختارهم بحكمته وعلمه ، ووفقهم ودلهم على مراده ، ليرفع به درجاتهم ، وما ذلك الا لأنه احبهم وسخرهم لعلاج هذا المرض واستئصال جذوره ، فهل من مشمر ومجاهد صبور ، لينال عند ربه منزلة لا يصلها العابد المتبتل .

إنها أمر بسيط ، ولكنه يحتاج لرجال يؤثرون الأخرة على الدنيا ، ويكون الصدق والإخلاص شعار دربهم ، وخارطة طريقهم  ،  يقول تعالى :  "فإن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما"  فالتوفيق هنا متعلق بنية المصلح التي لا يعلمها الا الله ، فوالله إن الخير منوط بهذا العمل وما التوفيق إلا من عند الله .

بام عيني رايت شقيقين حال الشيطان بينهما لسنوات ، ، ولأننا نظن بأن المصلحين اخلصوا ولا نزكيهم على الله ، ، رأينا صدقهم من نتيجة فعلهم ، فقد أنقذوا بتوفيق الله وفضله تلك العلاقة قبل فوات الأوان ، فتعانق الشقيقان في لحظة انس لا تقدر بمال ، وخنس الشيطان في لحظة صفاء أعادت الفرحة بالإخاء والود .

استاذنا وحبيبنا أبا عبدالله ، علي بن معيض الشريف ، مرب فاضل وأستاذ قدير ، رايته ذات يوم وقد انزوا بحبيبين طال خصامهما ، وعاث الشيطان في علاقتهما ، ارتفعت الأصوات وكادت الايادي أن تشتبك وأن يخرج الأمر عن السيطرة ، عرفت أنه يدير حوار صلح بينهما ، فاستبشرت خيرا ، ودعوت ربي تسديدا وتيسيرا ونفعا.

وفي لحظة هدأت الأصوات ، وانقلب الحماس والغضب إلى حلم ورحمه ، تعانق المتخاصمان وكأنما نشطا من عقال ،   وخرج الأستاذ علي وكأنما خرج من حصة درس بليغ ، قرع به القلوب وأثار به الارواح ، وحطم به أغلال الشيطان ومزق شَرَكَه ، خرج بعد أن تركهم خلفه يعبران لبعضهما عن لواعج حب كان مختفيا ولم يكن غائبا ، ففي أعماق القلوب جذوة الود لم تنطفئ ، وانما كانت تنتظر صاحب حظ عظيم اختاره الله واجتباه لهذا الفضل الكبير ، ليبعث بسببه وتوفيقه فيها الحياة من جديد ، فما أضعف كيد الشيطان إن لم يعط مناه في تفريق الأحبة .

اقبل أستاذي الحبيب ، وتقدمت إليه بخطوات سريعة لأهنئه بفضل الله عليه وبرحمته له وبتوفيقه اياه ، فقد كتب الله على يديه رتق ما فتقه الشيطان بين حبيبين ، ، كان يمد خطواته ويحمد الله كثيرا ويشكره على اتمام نعمته بإتمام مهمته على الوجه الذي تمناه ،

وهو يحث الخطى كان منشغلا بمسح دمعة شاردة سقطت عنوة من عينه ، كنت على يقين بأنها كانت من اغلى الدموع التي ذرفتها أعين الكرام على مر الأيام ، فهنيئا لأبي عبد الله ذلك الفوز بذلك الفضل ، فبمثل هذا الإنجاز ترفع الدرجات . 

* عن أمِّ الدَّرداء عن أبي الدَّرداء رضي الله عنهما قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَلَا أَدُلُّكُم على أَفْضَلَ من درجةِ الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ ؟ قالوا : بلى يا رسولَ اللهِ . قال : إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ . لا أقولُ : إنها تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ .

لمحة

هذا الموقف العظيم رغم مرور اكثر من اربعين عاما عليه الا كأنما حدث البارحة ، فلم تنسه تعاقب الايام و الاعوام ، فهل تظنون ان الله ناسيه ؟ حاشا الله عن ذلك وتنزه " وما كان ربك نسيا"

فاللهم يارحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، ارحم عبدك ابن عبدك إبن أمتك علي بن معيض الشريف وارحم أموات المسلمين كآفة وجازه اللهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا ، اللهم اكتب له بهذا الموقف أجرا واجعل منه قدوة لمن خلفه ، فكلنا أهل تقصير وضعف ، ويسر لنا وللمسلمين من يجمع الكلمة  ويلم الشعث  ويجمع الشتات ، إنك ولي ذلك والقادر عليه .

علي بن سعد الزهراني 

 جدة 1443/7/17

 





TAG

هناك تعليقان (2)

  1. جزاك الله خير الجزاء ورحم الله والديك وغفر الله له واسكنه فسيح جناته سبحان الله هذا العمل الكبير اللذي وعد الله عز وجل باالاجر العظيم

    ردحذف
    الردود
    1. أحسنت يا أبا عبدالله لا حرمك الله الأجر
      لاشاعة الود والمحبه بين الناس بمثل هذه
      القصص الواقعيه

      حذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript