أيقونة النساء

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

من قصص الأمهات

أيقونة النساء

أمنا " فاطمة بن حسن (دحنان)  " رحمها الله تعالى 

1345 ـــ 1443

ملاحظة /  لكثرة أخبارها التي تستحق الذكر كنت سأجعل هذا التدوين من جزءين ، ولكن رأيت أن أختصر الكلام ليترابط الموضوع دون إطالة حتى وإن لم نأت على كل الجوانب المشرقة من حياتها رحمها الله ، فيكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ، فاعذروا تقصيري وتقبلوا اختصاراتي فقد تكون مخلة ، ولكن هذا ما دعت اليه الضرورة ، والعذر عند كرام القوم مقبول .

والان إلى قصة أيقونتنا رحمها الله تعالى 

وأنت تستنهض الذاكرة ، فتمشي في طرقات حارة الحصون بالأطاولة ، سيستوقفك حتما صوت شجي ، يترنم بأحلى الكلمات وأرق الألحان ، وحين تقترب من الصوت شيئا فشيئا سيزداد وضوحا وقوة وجمالا ، هناك وأنت واقف عند زاوية احد البيوت الحجرية القديمة ، ارفع نظرك قليلا لتلمح في نافذته شابا وسيما كفيفا ، يرسل في الفضاء الحانا آسرة ، وكلمات أخاذة ، يلقيها في اذن المكان غضة طرية .

 وستراه يلتفت هنا وهناك وكأنما يبصر بأذنيه ، فمرة يلقي سمعه لصوت هدير جمل أبيه ووقع أخفافه ، فقد حان وقت عودتهما من التجول في الأسواق ، ومرة يلتفت لداخل البيت حيث أمه المريضة التي لا تستطيع خدمة نفسها ، فكيف بخدمة كفيف ، وإلى جانبها تقف أم له لم تلده ، قد رزقها الله قلبا رحوما وروحا شفيفة ، فكانت له ولأمه حضن آمن ومتكأ واسع ، فقد أوتيت نصيبا من فضل الله ورحمته وكرمه .

 إن رزق الخلق الحسن والرحمة والتضحية والصبر وإنكار الذات وحب الاخرين أهم وأغلى من رزق المال والجاه والولد  ، فمن عساها أن تكون تلك الرؤوم ؟  إنها زوجة أبيه الثانية ، والتي لم تأنف من خدمته وخدمة أمه رغم ان المنطق الإجتماعي يقول غير ذلك ، فهي من تقوم على رعايتهما إلى جانب رعايتها لببتها ولزوجها وأولادها بنين وبنات .

هكذا بدأت بطلتنا وأيقونتنا الرمز حياتها الأسرية ، واستأنفت رسالتها التي أدتها بكل أمانه ، وكأنما خلقت لها فاصطفاها الله بها إلى أن أسلمت الراية بعد ركض لأكثر من تسعين عاما في دهاليز الحياة ، هي سنوات عمرها التي طرزتها بحكمتها وحنكتها وكرمها وسخائها ومحبتها وحسن جوارها ، فقد أحبت الجميع وأحبوها ، بذلت لهم كل غال وثمين فأسعدتهم وسعدت بسعادتهم .

 هذه الكريمة ولدت في دنيانا مرتين ، ففي بيت زوجها ولدت من جديد ، وبشخصية فريدة قل أن تجدها ، وكأني بها وقد أعدت بهذه الإرهاصات لحياة مختلفة قل ان تعيش مثلها امرأة ، ليس لتكون مختلفة عن النساء فهي منهن ومعهن ولكن لتكون رمزا وايقونة لكل امرأة  ، فتشكر حين تذكر .

حياتها مليئة بالعطاء والحكمة ، رعتها بنفسها فشقت طريقها في الحياة بعصامية نادرة ، لتشرق لها الحياة بما يليق بها ، مات زوجها بعد أن ترك لها إرثا ثقيلا من المهام الجسيمة والتي تحملتها بكل اقتدار .

 لم تستسلم للوضع الجديد ، فقد وجدت نفسها مجبرة على مواصلة الدرب ومضاعفة الجهد ، فأصبح لديها هما جديدا غير هم البيت وساكنيه ،  فهناك لقمة العيش التي يجب أن تتوفر لمن تعول ، فكانت الأم والأب في زمن قل فيه المعين ، فكل الناس آنذاك شغلوا بأنفسهم وفيما بين ايديهم فشضف العيش وقلة ذات اليد قد ضربت في أعماق المجتمع كله ، فكيف بمن فقدت العائل والسند في ظرف كظرفها .

 لم تأل جهدا في سبيل الحياة الكريمة لأسرتها ، فسارت على خطى زوجها ، فاشتغلت بالتجارة من بعده فتنقلت بين الأسواق والقرى حتى أصبحت علامة فارقة في هذا المجال ، جدية وامانة في العمل و صدق في التعامل  .

عمدت إلى جمل زوجها الذي كان يعمل عليه فباعته ، ثم اقتنت بدلا منه سيارة ، تدرب على قيادتها أصغر ابنائها رغم مرضه وحاجته للمتابعة ، فضربت بذلك عصفورين بحجر ، حيث اخرجته للحركة ومخالطة الناس وأبعدته عن الوحدة القاتلة وأصبح بقربها في حلها وسفرها ، في بيتها وفي خارجه ، ترعاه ويرعاها .

 تخصصت في تجارة المستلزمات النسائية ، تسافر وابنها إلى المدن الكبيرة وتعود وقد ملأت سيارتها بضاعة ، فما أن تعود وتوقف سيارتها بجوار بيتها حتى تدعو كل جاراتها وبناتهن ، أن اليكن السيارة فخذن ما تردن دون مقابل ، فلا تسأل عن فرحتها بمشاهدة الصغيرات وهن يبعثرن بضاعتها لينتقين ما يناسبهن ، ، فتقف بابتسامتها حائلا بين أولائك الصغيرات وبين أمهاتهن اللاتي يحاولن منعهن من العبث ، بينما تقرأ في أسارير وحهها سعادة وتلذذا بذلك الأمر ، ففرحة الصغيرات وأمهاتهن في نظرها لهو أعظم مكسب وأكبر هدف تحقق .

 تنطلق ببضاعتها إلى حيث ينتظرها النساء في القرى المجاورة وكذلك البعيدة ، تتفرس في وجوه النساء واحوالهن فتتعامل مع كل واحدة بحسب حالها ، تبيع لهذه وتهدي لتلك ، وتأخذ من هذه وتمهل هذه وتخفض السعر لتلك ، كرم وسخاء لا مثيل له ،  بل تعدى الأمر تلك القيم إلى ما هو أكبر ، فلم تكن بمعزل عن الواجبات الاجتماعية والتي قد لا يقوم بها الا الرجال ، ففي بعض الزواجات التي تربطها باصحابها روابط قرابة أو جوار أو عمل فإنها تقدم لصاحب الزواج رأسا من الغنم كمعونة أو مايسمى بالرفد ، وهذا ما لم تجر العادة به من النساء ، ولكنه أمر ليس بمستغرب منها رحمها الله ، فالشهامة ايضا والنخوة مواقف مشرفة كانت من أسمى طباعها .

 فقد وقفت ذات مرة على نزاع بين دائن ومدين في أحد الأسواق ، وما أن عرفت لب المشكلة حتى أخرجت من محفظتها مالا دفعته لصاحب الدين وأمهلت الآخر إلى أن يتيسر له السداد ، فعلت هذا رغم أنهما لا يمتان لها بصلة أو قرابة  أو حتى معرفة دقيقة ، اللهم إلا علاقة السوق المادية ، فوفقت لهذا الموقف وتاجرت في اللحظة نفسها في سوق اكثر كسبا واعطم منزلا ، فكان طمعها بما هو أغلى وأعلى وأبقى ، فليس الكسب دائما نقدا مقبوضا أو مؤجلا ، ولكنها وبحكمتها ونبلها استطاعت ان تتسيد الموقف  ، فنظرت بعيدا لمكان قد يكون عميت عنه الابصار الا بصيرتها ، فاقرضت الله قرضا حسنا لتجده مضاعفا يوم لا ينفع مال ولا بنون ، موقف نبيل قل أن يقفه ارباب الحكمة والمال من الرجال .

كانت اما وأختا وسندا للجميع رجالا ونساء ، ومصدر أمان للمكان الذي تتواجد به وخاصة مجتمعات النساء كالإحتفالات والمناسبات ، فمتى وجدت اطمأن الناس كثيرا ، فلوجودوها هيبة و لحضورها تقدير واحترام ، وفي مشاركتها إضافة هامة لأصحاب الحفل ، فهي الشاعرة المتحدثة البليغة والأمينة الناصحة ، ذات النظرة الثاقبة والرؤية المتوازنة .

عملت في المركز الصحي لأكثر من خمسة وثلاثين عاما ، كانت فيها الأم الأمينة على العاملات فيه والمراجعات على حد سواء ، ، فبوجودها وبصحبتها لا يتردد الكادر الطبي النسائي  في زيارة المريضات في بيوتهن حتى بدون اذن مسبق أو أي إجراء روتيني ضروري .

يطمئن الناس عند وجودها في المركز الصحي ، فيحضرون نساءهم ثم ينطلقون لأعمالهم والتزاماتهم ، ولخبرتها الطويلة في هذا الميدان أصبحت بعد تقاعدها وكبر سنها عندما تزور مريضة تسأل عن نوع علاجها وتطلب أن تراه ، فتنصح بتغييره أحيانا أو تعديله ، فتقول : هذا لا يصلح مع هذا  وهذا يجب أن يكون معه نوع آخر ، وهذا الدواء يجب أخذه بحذر فهو يسبب عند الإستمرار عليه كذا وكذا  .

هذا غيض من فيض ، وما لا يدرك كله لا يترك جله ،إنها صفحات الأمهات والتي لو ترك للقلم فيها العنان لما توقف عن السرد والبيان ، فهكذا عاشت أمنا فاطمة بنت حسن (دحنان) رحمها الله حياتها ، والتي بذلت جلها للناس وخدمتهم ، فجزا الله أم الخير عنا كل خير .

وختاما

اعترف بأني لم أعجز عن الكتابة بعد عجزي عن الكتابة في أمي رحمها الله كعجزي عن الكتابة عن هذه الأم الفاضلة ، ففي الاثنتين يصدق في حالتي قول الشاعر : 

تكاثرت الظباءُعلى خراشٍ .. فمايدري خراشٌ مايصيد 

فحياتهن مليئة بالمواقف الإيجابية والأخبار الكثيرة المثيرة والتي لا تكاد تحصى ، مما أعجزني عن الإختيار والإختصار ، فتقبلوا مني هذا الجهد ، وتذكروا بأن رموزنا من النساء لا يقل شأنهن عن شأن رموزنا من الرجال ، فالأطاولة ولله الحمد والمنة ولادة للخيرين وفي كل القرى والمجتمعات خير  .

وقبل ان تخرجوا من هنا اشكروا معي من أمدنا بكثير من مفاصل قصتنا هذه وهم هؤلاء الأفاضل  :

الأستاذ / عبدالله بن عائض الرقاصي ووالدته ، والأستاذ / محمد بن سعيد البصيلي وشقيقته ، فشكرا لهم وجزاهم الله خيرا وبارك فيهم وحفظهم وأمدهم بتوفيقه ورضاه .


                            علي بن سعد الزهراني

مكة المكرمة  في 24 / 9 / 1443هـ





 



TAG

هناك تعليق واحد

  1. ماشاء الله تبارك الله... رحم الله الأم الفاضلة فاطمه وجميع أمهات المسلمين...
    كتبت فأبدعت ..كلمات وفاء وطرح أديب موثق وتاريخ جميل ورائع يحتذى به .. وهيهات أن نلقى شبيه لهذه الأم الفاضلة في زماننا هذا إلا من رحم الله...
    وفقك الله لكل خير استاذ علي
    أنا درست صغيرا في الاطاولة وعرفناها بطيب أهلها صغيرا وكبيرا
    وفقكم الله جميعا ويرحمكم أحياء وامواتا..

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript