خارج الأقواس

( التعليم خارج الاقواس )

                         من رفوف الذاكرة
التفاؤل .. الإشادة .. النصح .. الإعتذار .. الصلة 
هكذا علمني ففهمت ، فجزاه الله عني وعن جيلنا خير الجزاء ، واحسن الله لنا فيه العزاء .

بسم الله الرحمن الرحيم

 في منتصف الثمانينات الهجرية واظنني كنت وقتها تلميذا في الصفوف الابتدائية الاولية ، كنت ممسكا بيد والدي رحمه الله بعد أن أدينا صلاة الجمعة في الجامع القديم بالاطاولة ، نسير في مساريب القرية الضيقة باتجاه بيتنا ، كان يسر معنا شاب اعرفه تماما فهو احد معلمي مدرستنا وكان يتحدث مع والدي في امور كانت وقتها أحلاما ولكنها بفضل الله وتيسيره تحققت بعد سنوات ، كانا يتحدثان عن طريق الجنوب وان العمل به قد بدأ وقطع شوطا خارج الطائف ، واذكر انه قال لأبي : قريبا ان شاء الله ستفطر في بيتك وتصلي الجمعة في الحرم المكي ، ابتسم والدي حينها وقال : وهل يعقل هذا ونحن الان نستغرق الى مكة ثلاثة ايام وأكثر ؟ قال له : بما ان المشروع بدأ وقطع شوطا مهما فابشر فالبداية دائما حتى وان كانت في امور صعبة ومستحيلة هي اهم مرحله بل هي اكسير الحياة لكل عمل ذي بال  ، تلك الكلمات بقيت في ذاكرتي كالناقوس فكلما اردت امرا حتى وان كان صعب المنال او مستحيلا في نظري قبل انظار الناس ان اهونه واستسهله بمجرد ان ابدأ فيه وان اجتهد لاخطو الخطوة الأولى في ذلك الطريق ، فطريق الالف ميل يبدأ بخطوة  ، رغم اني في كثير من الاحيان ابدأ في تنفيذ امر ما ولكن لا انهيه ليس استخفافا به ولكن لقناعتي بان البداية هي كل المراحل فالمهم ان ابدأ ففي الممارسة تتولد الحلول وتتحطم القيود وتذوب الصعاب فان لم اكمل ما بدأت بنفسي فقد فتحت الطريق لغيري ليكمله . 

وفي احدى زوايا السوق كنت حاضرا ذات يوم نقاشا يعلوه العتاب بين ذلك الأستاذ واحد رجال الجماعة يعاتبه اذ لم ينفذ طلبه فتحجج محدثه بانه لم ياتيه احد فقال له ما قاله الشاعر  :  اذا كنت في حاحة مرسلا .. فارسل لبيبا ولا توصه .فانا ارسلت لك محمد بن جعدان اذكى طالب عندنا في المدرسة فانا اصدقه واجزم بصدقه وامانته وانه اوصل الرسالة كما هي ، هنا انهى النقاش باعتذار صاحبه بالنسيان ولكن بعد ان ارسل في فضاء المكان درسا تربويا عميقا احتفظت به في قاع الذاكرة وكأن الله اراد ان ينفعني به في وقت آخر عندما اكون معلما الا وهو الاشادة وزرع الثقة فيما تحت ايدينا من طلاب ،  فكم من طالب في حياتي التعليمية افتخر به في كل مجلس وفي كل مناسبة ولعلي هنا اذكر بعضهم لتعدد مواهبهم وملكاتهم في اخر مدرسة عملت بها .

في عام 1420 انتقلت لمدرسة تحفيظ القران الكريم بالاطاولة وكلفت بتدريس القران الكريم للصف السادس وبالاشراف المباشر على الانشطة الثقافية والاجتماعية كالاذاعة المدرسية والمسرح المدرسي والمعارض الفنية كنت لا اكاد انتهي من تلاوة الصفحة من القرأن الكريم حتى يتسابق الطلاب في تسميعها حفظا وما ان اوزع النصوص المسرحية الطويلة  الا ويتم حفظها من قبل الطلاب في يوم او يومين لم اتعب معهم حتى في التدريب على الاداء الحركي على خشبة المسرح ، ولعل درس الاشادة الذي تعلمته من استاذي بواحد من زملائي جعلني اشيد ببعض طلابي في كل مناسبة تستدعي ذلك استشهادا بتفوقهم وحسن تربيتهم  ومنهم .

عبدالله حسين طريخم ومحمد علي احمد كلفوت ومشعل حزام العويض وعبدالرحمن عبدالوهاب مسفر وسعيد محمد الحريري  وصالح حسن محمد وعبدالله جمعان ابو حفاش وعبدالرحمن مفرح الجهبلي ومبارك عطية حجري واحمد عبدالعزيز شيحان ومحمود السيد فايد وعادل عبدان الزنه رحمه الله  .  

 ومن دروس أستاذنا السابحة خارج الاقواس والتي لا تنسى عندما كنت في الصف السادس الابتدائي وكانت بنيتي الجسدية ضعيفة جدا لدرجة ان حقيبتي المدرسية تعتبر عبئا ثقيلا ، اهداني والدي رحمه الله مصحفا صغيرا لاصطحبه معي بدلا من المصحف العادي الذي كان بدون مبالغة اكبر حجما من المصاحف الجديدة بل لا ابالغ ان قلت انه يزن نصف الحقيبة وعندما رأني ذلك الاستاذ الفاضل حتى اقترب مني واخذ المصحف الصغير ليتابع الطلاب من خلاله وطلب ان اتابع مع زميلي القريب مني ، فزادني شرف ان الاستاذ اختار مصحفي ، لم يكن ذلك التصرف  منه الا ارهاصا ومقدمة تربوية رائعة لما هو ات بعد دقائق ، فقبل نهاية الحصة اعاده الي وهمس في اذني قائلا : مصحفك ممتاز ولكن هنا فصل دراسي ويجب ان يكون مصحفك ذو حروف مناسبه للتعلم ، وحتى لا تكون شاذا عن زملائك اختر مصحفا عاديا ، ثم اطلق في وجداني درسه البليغ في جملة قصيرة :  كن مثلهم في ادواتك ولكن تميز عليهم بقدراتك ، كلمات لم تغب عن ذهني يوما منذ سمعتها الى يومنا هذا ، فالتميز الحقيقي الذي احرص عليه واعلمه لطلابي انما يكون بما نحسن وليس بما نملك  .

ولعل اهم درس تعلمته من استاذي هذا ، انه في يوم من الايام عاد اخي عبدالله رحمه الله وفي يده جرح لازال ينزف دما ويحمل بيده الثانية رسالة ، فتحها ابي رحمه الله وقرأها فاذا بها اعتذار انيق مطرز بكلمات راقيه ومدبج بجمل اسرة من ذلك الاستاذ نفسه ، يقول فيها بعد التحية والسلام : قد وقع الجرح في يد ابني وابنك عبدالله حفطه الله دون قصد فالمني ذلك قبل ان يؤلمه ، ولكن لا يغني حذر من قدر  والامر لك ،احكم بما تريد وستجدني اخوك الصغير الذي لا يعصاك ، هذا عذري منك والعذر عند كرام القوم مقبول .

قام ابي وعلى الفور وفي نفس الرسالة كتب : ايها الاستاذ الفاضل المنا ما رايناه ولكن اسعدنا ما قرأناه  فذابت حرارة عتابنا في برد بحار خلقك فعفى الله عنك ورفع قدرك .

ان ثقافة الاعتذار درس ثمين قل من يجيده وكذلك قبول الاعتذار يعد درسا هو الاخر لا يقل اهمية ، فلا ادري حبنها من اي النهرين شربت فارتويت ،  ولكنه موقف تربوي رائع بين مرب اب واب مرب موقفان لازلت اقتبس منهما في كل مناسبة مشابهه ، ففي اول سنة عملت فيها معلما في مدينة الرياض كنت متحمسا فضربت طالبا فجرحت يده فكتبت لوالده رسالة اعتذار ، ولكن الطالب مزقها فورا وقال انت كابي واعلم انك لا تقصد اذيتي ، فعاتبته على تصرفه واخبرته باني احب ان يرى والده اعتذاري فصدمني بقوله : انا يتيم وابي مات منذ زمن ، فاسقط في يدي ، ومن لحظتها لم احمل العصا الا كمؤشر على السبورة ، بل كنت اكتفي بعود بطول القلم احطته بلاصق أخضر احمله في جيبي وقد عرف عند طلابي في كل المدارس التي عملت بها بالقلم الاخضر ، وكنت احمله من باب علق السوط ولا تستخدمه ، وان استخدمته للضرورة فانه كالسواك لا يؤذي .

هذا الاستاذ الذي نهلت وابناء جيلي من حسن تربيته وانبهرنا بابداعاته ومواهبه الكثيرة والتي لم يسبق بها زمانه فحسب ، بل سبق زمانه في امور اخرى ربما تكون هي الاهم في ارثه الثمين الذي عشناه في حياته وبعد مماته رحمه الله 

ارث تربوي وكنز ثمين حفر له في سويداء قلوبنا واعماق ارواحنا اكنانا نأوي اليها ومواقف نذكرها فنتعلم منها ونراها بام اعيننا ونور بصائرنا فننتهجها في حياتنا خارطة طريق .

كانت دروسا تلقائيه القاها من خارج اسوار المنهج  كدروس غير مقيدة باقواس ، لم يتكلف في غرسها ولكنه الاخلاص كما نحسبه والله حسيبه اذ ترعرعت تلك الغراس المباركة في اعماقنا فخرجت على جوارحنا وبذلناها لطلابنا وابنائنا واخواننا كصدقة جارية يجني ثمارها في قربه وبعده وفي حياته ومماته ، غراس ان لم يعرف الناس عرابها فان الله يعرفه وسيجزيه عليها خير الجزاء فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره 

حتى في يوم وفاته رحمه الله كانه كان يستشعر حديث النبي صلى الله عليه وسلم : اذا قامت القيامة وفي يد احدكم فسيلة فان استطاع ان يغرسها فليغرسها ، فاستاذنا كان على موعد اجر لا يقل عن اجر زراعة الاشجار رغم مرضه والمه وتعبه ، انه موعد صلة وبر ووفاء مع جيرانه ، ومحبة الجيران والالفة معهم من اجل العبادات ، فها هو يدعوهم لبيته ليانس بهم وليكون سببا في اجور تدون في سجلاتهم ، ولكن قبل ان يصلوا اليه سبقهم ملك الموت فخطفه قبل ان يسعدوا بلقائه ، ولكن له رب كريم يجازي بالنيات كالجزاء على الافعال وربما أكثر ، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات وأنما لكل امرئ مانوى . فذهب للقاء من هو اكرم له وارحم به ، كدرس اخير من معلم قدير ، ارسله لنا ولكن ليس من خارج الاقواس او من داخلها  ، بل أرسله من خارج الحياة كلها ، وكانه يقول لنا وللدنيا : لا تفقدو الامل والعمل حتى وان كانت الانفاس تلفظ والعيون تجحظ والموت ازف  فالعطاء في الحياة لاخر نفس هو دأب المسلم فلا يدري الانسان بم يدخل الجنة .  


هذا هو استاذنا وحبيبنا ابا خالد عبدالله بن سعد الخبتي رحمه الله والذي اجزم انه لم يلق تلك الدروس خارج اسوار المدرسة وداخلها الا محبة واستشعارا باهمية رسالته فلم تقيده الاقواس فاستشعر روح المنهج فغاص في بحره وسبح ، واستخرج منه اللالئ والجواهر فاثمر غرسه وطاب جناه وتلذذت الاجيال بتلك القطاف فرحمه الله وعفى عنه  .

وللاستزادة من أخبار الأستاذ عبدالله سعد الخبتي رحمه الله 

https://cutt.us/E3dTd

علي بن سعد الزهراني 

الاطاولة .. الوادي الأخضر 

15/ 11 / 1443هـ


 



TAG

هناك 3 تعليقات

  1. جزاك الله خيرا ابا عبد الله ورحم الله ابا خالد وجعل ماقدم وما كتبت في ميزان حسناته ورحم الله والديك وجميع موتانا وموتى المسلمين

    ردحذف
  2. جزاك الله خير وكتب الله اجرك

    ردحذف
  3. جزاك الله خير ورحم الله ابو خالد رحمة واسعه

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript