الصُّحبة

 حضروا للمسجد قبل مودعية ، ولكنهم لم ولن يكونوا من مشيعيه ، ومع أنهم يعلنون احترامه إلا أن وجوههم تعلوها الإبتسامة ، قد سيطر على تواجدهم المرح ، وحلق بهم في فضاء المكان الفرح ، فمن أولائك ؟ 

( الصُحبة )

عندما تكون الصحبة خالدة 

رؤية أدبية لحياة أبية 

كذلك نحسب فقيدنا رحمه الله والله حسيبه 

 بسم الله الرحمن الرحيم 

عكف قبل سنوات قليلة على تصاميم مسجده وتنفيذه ، مما جعل منه مسجدًا أنموذجا ، وأيقونة معمارية إسلامية فريدة ، وكأنه يُعده ليكون ذات يوم ميدانًا لوداعه ، وليكن آخر بيت يدخله في الدنيا ، هكذا قُدّر له وإن لم يكن قَدّر له .

احتشد الناس هناك ليودعوه ، فهاهي رحلة جديدة ستنطلق به لحياة أخرى ، فالمسلم وإن انقطع من الدنيا وذهب ، فإنه لا يذهب أبدا للعدم ، بل ينتقل من حياة لحياة ، حتى يصل نهاية الرحلة ، فهنيئًا لمن أعد لرحلته الزهاب ، حتى إذا ما وصل حُق له أن يضع في جنة الخلد الركاب  .

نعم هناك توافدت الجموع وذُرفت الدموع لوداع رجل طالما عشق العطاء وساهم في وطنه  بالنماء .

نعم هنا في مسجده الذي سيدخله بعد قليل ، مسجده الذي طالما دخله بقدميه وحلق فيه بفؤاده وناظريه ، والذي طالما لامست ارضه جبينه و كفيه .

فها هو سيدخل المكان ولكن ليس كدخوله المعتاد ، سيدخله ولكن ليس على قدميه التي توقفت عن الركض ، تلك الأقدام التي طالما تغبرت في طرق الخير ودروب العطاء ، نعم سيدخله ولكن هذه المرة مسجىً على النعش ، محمولا على الأعناق ، سيدخله وأمامه أمة من الناس جاءوا من كل مكان ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، احتشدوا ليودعوه على أمل اللقاء به في جنات النعيم بجوار رب كريم رحيم .

ولكن من أولائك الذي حضروا لاستقباله قبل حضور مودعيه ، ولماذا تعلو وجوههم الإبتسامة والفرح في وقت كانت الدموع بهم أولى ، ولماذا حضروا منذ الصباح الباكر وكأنهم يعدوا المكان لإحتفال بهيج ؟  فلا يبدو على سحناتهم حزن ولا ألم ، بل تراهم يتبادلون النظرات تلو النظرات ، واعينهم تفيض بهجة وبشرا .

لا أظنهم إلا قد وصلوا المكان منذ اللحظة التي خرجت فيها روحه رحمه الله ، بل أظنهم قد حضروا إلى المكان منذ زمن بعيد ، بل لا أشك أنهم قد وصلوا قبل أن يبنى ذلك المسجد بزمن كبير ، وكأنهم يلتقون فيه أحيانا ويهمس أحدهم للآخر : هنا سنلتقي ذات يوم بعد أن يتبدل المكان ويُعَمر فيه محاريب وجدران ، هنا سنلتقي ولكن سيكون حتمًا لقاءًا مختلفًا ، لقاء لا نفترق بعده أبدا ، بل قد لا أكون مبالغا إن قلت أنهم قد وصلوا إلى المكان منذ لحظة ولادته رحمه الله إن لم يكن قبلها ، ففي سابق علم الله وتقديره أن سيكون هنا وفي الدمام تحديدا مراسم الوداع التي تليق بذلك الضيف الذي ولد قبل ستين عاما في الأطاولة بزهران ، فما أبعد المسافة والزمان بين النقطتين وما أقربهما ، فهاهم حضروا قبل الجميع ليظهروا فرحهم بصاحبهم رغم الحزن المخيم على المكان ، فمن هؤلاء الذين حضروا ليستقبلوه لا ليودعوه ، حضروا ليصحبوه في رحلته الجديدة لا ليتركوه ، حضروا ليكونوا معه في رحلته ليؤنسوه .

حضروا ليقولوا للجموع الحاضرة والغائبة : لمثل هذا اليوم أعدو لكم صحبة خالصة خالدة ، لن تودعكم بالدموع ولن تترككم حال  حاجتكم لها ، ولكن لتكون معكم بفرح دائم تسير معكم جنبا إلى جنب .

حضروا ليقولوا لمودعيه : سيعود كل واحد منكم إلى حياته الخاصة ، وسينسى عاجلا أم آجلا من جاء لأجل وداعة ، ولكن نحن لسنا كذلك ، فلغة الوداع ليست لغتنا ، ودنيا الأحزان ليست بدنيانا .

حضروا ليقولوا : نحن فقط دون الأهل والولد ، ودون القرابة والأحبة ودون الجاه والمال ، فنحن فقط من سيصحبه وسيدخل معه لمنزله الجديد ، اللهم إلا من دعوات تلهج بها قلوبكم وألسنتكم ، ستكون له على مدى الأيام والأزمان نورًا على نور ، أما نحن فجاهزون الآن لصحبته والدخول معه إلى دار ظاهرها حفرة في تراب ، وباطنها لمن يوفق لمرضاة الله مسكنا ليس كمساكن الدنيا ، مسكنًا قد فُرش من الجنة ، امّا أبعاده فمد البصر .

فوالله لو أُذن لنا بالحديث لقلنا لكم : أنصتوا فلدينا نحن حديث من نوع آخر ، ولقلنا : امسحوا دموعكم ، وأرونا في وجوهكم علامات الرضى ، فمثل سعيد لا يودع بالدموع ولا بالأحزان .

هنا تبادر الناس لحمله وتشييعه ثم إنزاله لمسكنه الجديد ، فما أن أغلق المكان حتى أخذ كل واحد من أولئك الصحب مكانه ، فمنهم من جلس عن يمينه ومنهم من جلس عن يساره ومنهم من كان عند رأسه ومنهم من كان عند قدميه .

وفي الثابت في الأحاديث أن الذي يأتي المؤمن في قبره هو عمله الصالح ، ففي حديث البراء الطويل ، قال صلى الله عليه وسلم: فيأتيه ملكان فيجلسانه إلى أن قال : ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له : من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول : أنا عملك الصالح . رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.

 يقول النبي صلى الله عليه وسلم

ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه اللهُ يومَ القيامةِ ، ليس بينه وبينه تَرجمانُ ، فينظرُ أيْمنَ منه ، فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظرُ أشأَمَ منه ، فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظرُ بين يدَيه ، فلا يرى إلا النَّارَ تِلقاءَ وجهِه ، فاتَّقوا النَّارَ ، ولو بشِقِّ تمرةٍ ، ولو بكلمةٍ طيِّبةٍ

فالناس شهود الله في الأرض فكل من عرف أبا رداد عرف طيبته وحسن معشره ، وحرصه على الخير والإلتقاء بالأحبة والأنس بهم ، وله حرص خاص لجماعته أبناء الأطاولة ، ففي رمضان الأخير حرص أن يجمعهم ، بل شدد على أن لا يغيب أحد وكأن إصراره رحمه الله إصرار مودع . 

وما مسجده وجمعيته الخيرية الخاصة ، وحلقات القرأن ورعاية الموهوبين ، ودعم الجمعيات الخيرية ومساهمته الفاعلة في نماء اقتصاد الوطن ، وفتحه لالاف البيوت التي يعمل عائلوها لديه وغيرهم ممن كتب الله حاجتهم لديه ووفقه لقضائها .

كل هؤلاء وغيرهم ممن لا يتسع المقال لذكره كانوا حاضرين في مقدمة المشهد ، ولكن ليس لوداعة بل لمصاحبته بمشيئة الله ورحمته .

رحمك الله يا أبا رداد وجمعنا بك في جنات النعيم ، وأحسن عزاءنا جميعا فيك ، وبارك في عقبك للسير على خطاك ، ووفقهم لما فيه خيري الدنيا والاخرة .

علي بن سعد الزهراني

مكة المكرمة

1445/4/20 - 2023/11/4

   

TAG

هناك 6 تعليقات

  1. رحم الله جميع اموات المسلمين ورحم الله الشيخ سعيد بن رداد وكتب الله كل ما قدم في موازين حسناته

    ردحذف
    الردود
    1. الله يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته

      حذف
  2. رحم الله ابو رداد وأسكنه فسيح جناته
    جزاك الله خيرا يا ابا عبدالله على ما خطه قلمك عن المرحوم وجعل الله ذلك في ميزان حسناتك

    ردحذف
  3. ‏‎‎كم انت مبدع اخي واستاذنا الفاضل علي بن سعد بما سطره قلمك في رجل العطاء والأيادي البيضاء
    ‎سعيد بن رداد
    رحمه الله واسكنه فسيح جناته
    جهود متميزة واهتمام برجال الأطاوله الأوفياء والحديث عنهم وعن اعمالهم
    فشكراً لك من القلب
    ‎ابا عبدالله
    زادك الله علماً وتوفيقا

    ردحذف
  4. غفر الله لابي رداد واسكنه فسيح جناته وسلمت يداك بما خطت من بديع الالفاظ وجمال السرد

    ردحذف
  5. رحمه الله وغفر له وعفا عنه

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript