ليلى لم تمت

 ليلى لم تمت

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلى لم تمت

وبعد صراع طويل مع الألم ، وغياب عن الوعي ، رحلت وفي يدها وقلبها وروحها عقودا من الزمن كلها عطاء وسخاء وانكار ذات ، سنوات ستأتي إن شاء الله شاهدة لها لا عليها ، رحلت بعد ان أدت رسالتها كما نحسبها ، أم وأخت وابنة ومعلمة ومديرة مسئولة وسيدة فاعلة في مجتمعها ، فقد كانت في حياتها كالشجرة المثمرة ، والأشجار لا تموت إلا واقفة .

.................................................

*راحتي طالبات ومعلمات

*في بيتي ربيت خمسة اولاد وهنا ربيت مئات البنات

*لم أكتف بالدوام الرسمي فقد كنت اعود لمدرستي حتى في اوقات راحتي .

* قلبي سيظل معلقا هنا حتى وان ابتعد جسدي

* نعم هنا وقفت ..... وهنا بكيت.... وهنا كرمت....

وهنا شجعت وأثنيت... وهنا نهرت وزجرت ..... وهنا قسوت . نعم قسوت...قسوة محب يخشى عل محبوبه الهلاك... وقسوة أم تخشى على بناتها الضياع..وترجو لهن الفوز و الفلاح )

كلمات مقتطفة من خطابها الذي ألقته يوم تقاعدها ، فقد وقفت المربية الفاضلة الأستاذة ليلى بنت سعد هندي رحمها الله ، أمام بناتها معلمات وطالبات مجمع مدارس تحفيظ القرأن الكريم للبنات بالأطاولة ، وذلك قبل ستة عشر عاما .

 كانت كلمة مؤثرة تنم عن تعلق شديد بمدرستها ، فإن تعيش ما يقارب الأربعين عاما في مكان واحد أو أقل من ذلك ، فإن علاقة وجدانية ستنشأ بينكما حتما ، وستتوغل في النفس بشكل يصعب الفكاك منه ، فكيف به وهو معقل تربوي يفيض بالألفة والمحبة والعطاء والنصح لكل من درج في أروقته يوما ما .

فالمكان نفسه وإن كان جمادا لا حياة فيه ، فإنه يكتنز داخله مشاعر وأحاسيس لو أذن لها لتنفست ، وتحركت وأظهرت ما تخفيه ، ولقالت عيانا بيانا وبلسان حال ومقال : أنا هنا ، فجذع نخلة بكى عندما استبدله النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمنبر ، ولم يهدأ حتى نزل الحبيب إليه فاحتضنه وخفف عنه ما يجد  ، فالمكان إذا يحزن ويفرح ويستبشر ، ولكن لمن ؟ إن ذلك حتما لمن يبادله الشعور والإهتمام ، وهذا ما اتضح من كلمتها رحمها الله  حين قالت : إنها ستودع ذلك الصرح الذي بنته لبنة لبنة منذ تأسيسه ، وأنها  سترحل عنه جسدا دون روح .

فقد أودعت في المكان قلبها ورحلت بمشاعرها وذكرياتها ، ولو أنها نظرت خلفها لرأت المبنى الذي ودعته ، ومعها كل ذكرى جميلة ، بل رحلت بغبار مكتبها في يدها ، وكأن الأمر يصعب عليها أن تزيله من لحظتها ، خوفا من مشاعر جماد أحستها وصدقتها حتى وإن أنكرها الناس ، فلو أنها التفتت لسمعت ورأت بكاء المكان ،  هكذا شعرت وهكذا وصفت وليس هذا بمستغرب ، فالله تعالى يقول : "فما بكت عليهم الأرض" وهذا معناه أن هناك من تبكي عليهم الأرض ، وتحزن عليهم الأماكن ولا تلام .

 فما أشبه الليلة بالبارحة ، وأنا أقرأ كلمتها تلك رأيت وكانها ترسل نظراتها إلى مجموعة من الصغيرات ، هن طالبات الصف الأول الإبتدائي ، حضرن ولكن لا يدرين ما الخبر ، يستمعن كلاما لا يعرفن مراده ، فكل الذي عرفنه أنهن غيرن مكان فصلهن لساعة أو ساعتين ، ولمكان هو أكثر سعة ، فطاب لهن اللعب والضحك فيه ، وكأني بها تحدث نفسها وعلى محياها ابتسامة الرضا ، أهولاء الصغيرات هن أخر ما بذرت في مدرستي ؟ رب إني أستودعتك اياهن ، فاجعل مستقبلهن مشرقا مفعما بالرضى والقبول ، وإن يكن في مقبل الزمان أمهات صالحات ذوات تأثير إيجابي في مجتمعهن .

هؤلاء الصغيرات قد تخرجن من الجامعة قبل اشهر قليلة ، وكأن القدر يقول لهذه الفاضلة قبل موتها باشهر قليلة : هذه بذورك الأخيرة قد اينعت وخرجت من اكمامها ، ووقفت على سوقها ، لتروي الارض عطاء كما أعطيتي ونماء كما بذلتي ، وسينطلقن كانطلاقة من سبقهن ممن ربيتي ورعيتي ، لتستمر حياتك بالعطاء حتى وإن غبتي عن الوجود .  

 فان تزرع بصماتك في الاخرين ، فإن ذلك امتداد  لحياتك حتى بعد مماتك ، ويأبى الله إلا أن يكون موت هذه الفاضلة بعد أن حصدت ما زرعته ، ولن يكون الحصاد الأخير ، فبصماتها ستتوارثها الأجيال ، من أم كانت طالبة إلى بناتها إلى أحفادها وهكذا ، فعداد الحسنات يعمل دون توقف إن شاء الله ، وهذا حال كل من يعلم الناس الخير ، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم : إن اللَّه وملائِكته وأَهل السماواتِ والأرض حتى النَّملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير ، وقال أيضا "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". 

لم تقتصر تلك الفاضلة بالإنكفاء على طالباتها ومدرستها فقط ، بل تجاوزت في عطائها أسوار مدرستها ؛ فعند علمها بأن طالبة في مدرسة أخرى قد كسرت نفسها ، فجبرتها جبرا جميلا ، وعوضتها بما هو أجمل وأكمل وأفضل ، فرسمت الإبتسامة والرضى في تلك الروح البريئة ، بعد أن كاد الاخرون أن يقتلوا فيها الشغف والإبداع .

هذا ما أعرفه أنا فكل ماذكرته هنا إنما كان بعودتي لمقال قديم ، وعند زميلاتها وطالباتها واسرتها واقاربها بالتأكيد الكثير الكثير من الأخبار الجميلة والمواقف الرائعة .

رحم الله أم طلال وعفى عنها ، وألهم أسرتها وذويها الصبر والسلوان ، واحسن الله عزاءهم وأعظم أجرهم ، اللهم يمن كتابها ويسر حسابها وجازها عن بناتنا وأخواتنا و نساء المسلمين خيرا  ، وارفع اللهم منزلها في عليين ، وأجعل ما أصابها كفارة لها ورفعة في درجاتها ، وأجعل ما قدمته في موازينها يوم أن تلقاك .

 فما اورثته من خير في أنفس مئات البنات ، وما سيورثنه من بعدها للأجيال القادمة إن شاء الله ، لهو استمرار للعطاء ، ونيل للمزيد من الأجر إن شاء الله حتى وإن غابت فاعلته ، فمن ورَّث نفعا سواء كان فعلا أو قولا أو قدوة حسنة ، كان له ذلك حياة ثانية لا تعرف الموت .

علي بن سعد الزهراني 

الأطاولة ١٤٤٦/٧/٣هـ .. ٢٠٢٥/١/٣م