صوتنا الذي غاب

صوتـنا الـذي غــاب

اللهم أعده الينا سالما من كل شر 
وغانما من كل بر


بسم الله الرحمن الرحيم

عند دخولي قبل قليل من باب جامع الأطاولة ، لقيت عيني تتجه وبإصرار للمكان الذي اعتاد الجلوس فيه ، فما أن أديت تحية المسجد حتى وجدت نفسي وقد جردت يراعها لتكتب ما يسليها عن رجل المنا جميعا غيابه ، فأسندت ظهري لسارية من سواري المسجد وكتبت .

هنا في جامع الأطاولة وعلى بعد خطوات من المحراب ، وفي ميمنة الصف الأول ، سترى وأنت تنقل بصرك  مكانا لا تكاد أن تتخيله دون صاحبه ، كان يجلس فيه دون منافس مستبقا للخيرات كذلك نحسبه ،  ولو اقتربت منه أكثر لوجدت فكرك سارحا في فضاء المكان ، يستمع لأصوات مختلطة المشاعر  بين دعاء وتفاؤل وأمل ،  فصاحبه كان في تواصل حميم مع السماء ، فكان لزاما على المكان الوفاء .

اجلس الان واسترق النظر الى المكان واحس بلوعته وألمه ، أسمعه يسأل الجالسين بجواره : اين محمد ؟ أين من كان يسعدني وجوده ؟ أين من كان يملؤني بجلال القرأن وطيب الأذكار ؟ أين من كان شامة وقامة ؟ أين وأين وأين ؟ ولكن لا مجيب .

كأني بذلك المكان وهو يستعد للقياه من طلوع الشمس في كل يوم جمعة ، وكأني بالمكان يتأنق لاستقباله ، وكأني بمصحفه ومكان سجوده يستبشران بمقدمه .

لا أحد ينكر العلاقة الوجدانية بين المكان والإنسان ، فحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم قال : أحدٌ جبل يحبنا ونحبه ، ونزل ذات مرة ليحتضن جذع النخلة الذي اهتز وبكى ، ليخفف عنه حزنه بعد أن استبدله بمنبر ،  فوالله لو كشفت لنا الحجب لرأينا حزن الاماكن وافراحها وبأم أعيننا ، ولكنها رحمة الله بنا ، فهنيئا ثم هنيئا لمن حزنت لغيابه المساجد ، لأنه كان من عمارها ومن علق قلبه بها .

خرج الوالد أحمد بن غازي رحمه الله ذات يوم جمعة من بيت ابنه في مدينة جدة وذلك في وقت خروجه المعتاد لصلاة الجمعة في الديرة ، فوجد الجامع هناك مقفلا ، انتظر عند الباب حتى أتى المؤذن بعد حين فعاتبه على التأخر ، ثم قال له بلهجته : ذالحين محمد بن درعان في جامع الأطاولة قد قرأ ستين وجه .

ليت شعري أيها الشيخ وأنت معنا الان ، فما عساك أن تقول لمجلس بن درعان الذي كان بجوار مجلسك الذي افتقدك أنت أيضا ، ولكن الفرق بينهما أن مجلس ابي عبدالله لم يفقد الأمل بعودة صاحبه إليه ، والأنس به والحياة معه ، وأراه يرفع لربه الدعاء تلو الدعاء بأن يعيد اليه أنيسه وجليسه .

لم يكن جامع الأطاولة فقط من افتقد أبا عبدالله في غيابه ، بل لا أبالغ أن قلت أن  كل شبر في الأطاولة له مع أبي عبدالله حكاية وحكاية .

قبل أيام كنت مع بعض الاخوة نتسآءل عن حال حبيبنا ، وعن اخر أخباره ، قال أحدنا متسائلا (1) : أنا لا أتخيل الديرة بدون بن درعان ، فقد كنا نجده في كل مكان ، في المناسبات العامة ، في العزاء ، في التواصل الحضوري والهاتفي مع الكبير والصغير ، في الصلح بين الخصوم ، في استقبال ضيوف الأطاولة ، في الهم والإهتمام ، في السؤال عن المرضى وزيارتهم حتى لو كانوا بعيدي المزار ،كنا نراه ونجده ونسمعه في كل مكان فبصماته لا تخفى وروحه لا تغيب .

ابن درعان لم يكن رجلا عاديا ، فثقافته الغزيرة ، وشجاعته الادبية ، وقوته في الحجة ، وأدبه الجم واحترامه للخصم ، واريحيته في اللقاء ، وحبه للناس ، ونكرانه للذات ، وعفوه عن من أخطأ في حقه ،  كل ذلك وزيادة كانت من سمات ابي عبدالله محمد بن درعان  حفظه الله ، نذكرها فيه ونشكرها له .

احبه أهل الأطاولة وأحبه كل من عرفه ، فلم يكن بن درعان متقوقعا على نفسة ، فقد بنى علاقاته مع الكثيرين ، فلا تكاد تسمع بمدينة أو قرية في منطقة الباحة ، بل وفي مناطق أخرى إلا وله فيها صديق أو زميل أو محب او صيت .

بن درعان لا تكاد ترى أو تسمع بمصلحة عامة إلا وتراه في مقدمة الركب ، بكيانه ولسانه وبكل ما يستطيع ، يحلحل السلبيات ويعزز الايجابيات بأسلوب المعلم القدير ، والأب الحنون ، والأخ النصوح ، فكان بحق لسان الأطاولة الصادق المخلص المحب .

هذا هو صوتنا الذي غاب ، ولعلها إن شاء الله غيبة ارتواء واستزادة من الأجر والثواب ، فالمسلم يؤجر حتى على الشوكة إن أصابته ، فوارد الماء يغيب ، ولكن لينهل لأهله عذب المياة ،ثم يعود ليسقي أحبته ، فيستزيد خيرا لينمي خيرا ، وليعود حاملا الفرح في محياه ، والعطاء في كفيه والصحة بين جنبيه ، فليس ذلك على الله بعزيز .

عد الينا يا أبا عبدالله فقد اشتاقت مجالسنا لحضورك ، واذاننا لصوتك ، واعيننا لرويتك ، وهمنا لهمتك ، وافراحنا لتواجدك .

عد الينا فليس لمثلك الغياب ، عد الينا فكثير من لبنات بنائك لازالت تنتظر اياديك البيضاء لتعلي البناء ، بخبرتك التربوية والثقافية وحكمتك الاجتماعية الانسانية لترشد العمل وتقومه .

عد الينا فما علمناك إلا محبا لنا ، باذلا قصارى جهدك لتكون أطاولتنا شامة بين البلاد ، وقمة بين الديار .

يامحمد يابن درعان وش لك مـن دوا  

         غيــر دعـوات نناجــي بـها رب السـما (2)

وختاماً 

أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك ، وأن يعيدك إلينا وإلى أسرتك وأنت ترفل في اثواب الصحة والعافية . 

علي بن سعد ساعد الزهراني
جامع الاطاولة يوم الجمعة 1442/4/26
........................................................

(1) / هو الأخ عوضة بن عبدالله بلاع 

 (2) / هذه خاطرة شعرية وصلتني من الأخ العزيز أبو ناصر الشيخ عبدالعزيز بن سعيد العبيدي أوردها هنا لاننا كلنا ذلك الرجل المتالم على حبيب غاب  .

يقول أبو ناصر حفظه الله :

والله ان العيـن تدمـع ويـا دفـع البـــلا

حتى مجلسك الذي بين النشاما ماخلا 

قم ترى مسجدك يدعيك لتقيـم الصلا 

يامحمد يابن درعان  وش لك مـن دوا         

غيــر دعـوات نناجــي بـها رب الســما

    






TAG

هناك 3 تعليقات

  1. حفظك الله يا أبا عبدالله ورد الله زميل الصبا محمد درعان إلى أهله ومحبيه سالما معافى لقد قلت واجدت
    وابكيت فالاخ محمد درعان عندما يقابلني يبادرني بقوله
    اهلا بابن الرجل الطيب ثم يذكر مناقب الوالد وسيرته العطرة
    رحم الله أبي وأمي وجميع قرابتي واعاد الله أخينا وحبيبنا محمد درعان إلى أهله ومحبيه
    ابو/احمد خضران

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. أسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يشفي أبا عبدالله محمد بن درعان وأن يعيده إلى أهله ومحبيه وهو في أتم الصحة والعافية

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Edit in JSFiddle JavaScript