( دمعة يحيى )
رسالة إلى أمّنا / فاطمة بنت أحمد السمع
رحمها الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
يحيى(1) فلاح مصري بسيط لا تمل الحديث معه والجلوس إليه ، والإستماع لقصصه وحكاياته والسرور بابتسامته وطلق محياه .
بلهجته المصرية البسيطة قال لي : "والله أنا امبارح يابو عبدالله عيطت عياط ياما " لم أقاطعه أو أسأله لحاجتي في الإستزادة من أخباره .
شردت لحظتها بذهني ، ابتعدت عنه وجدانيا لاجسديا وحادثته بعيدا عن عينيه الرقراقتين قائلا : لماذا البكاء يا أباسعيد ؟ ولماذا تخبرني بمشاعرك دون أن أسألك ؟
هو يعلم جيدا وأنا أعلم أيضا لم اختصني بخبر بكائه ، ليس مهما يا يحيى أن تخبرني أنك بكيت ، وليس مهما أن أعرف أن دمعتك خرجت من محجرها دون استئذان ، فبُعدك عن أسرتك عذر للبكاء وجيه ، فكم والله من دموع لأمثالك قد خرجت قهرا وحزنا ، فأنفسهم الأبية أبت إلا أن تخرج من أعينها دموعا ساخنة ، ترسم أخاديد غائرة عبر تلك الوجنات الخشنة التي جفت من عجاج السنين ولوعة الحنين .
كأني بتلك الدموع التي تخرج منكم قسرا يا أبا سعيد عند تذكر الأهل والأحباب والجيران والأصحاب مع عجز الحيلة وقلة ذات اليد حين أجبرتكم الظروف والأقدار على الحياة بعيدا عنهم ، ليس حبا في الغربة ولكن ليجدوا لقمة عيش هنية يطعموا بها من يعولون ولو كانوا بعيدا عنهم فالمهم لديهم أن تكون أسرهم سعيدة حتى ولو لم تكتحل أعينهم برؤيتهم لأشهر وسنوات .
هكذا هم إخواننا ممن سخرهم الله لنا وسخرنا لهم لينظر كيف نتعامل معهم ، أنكرمهم أم نهينهم ؟ أنعطيهم أم نحرمهم ؟ أنشكرهم إذ وضعهم الله في دروبنا سببا لننال بهم الأجر والثواب ويكونوا رحمة الله لنا ، أم ننكر فضلهم ؟ ونجير الفضل لأنفسنا الضعيفة التي لو أوكلها الله لمجهودها لضاعت وتلاشت ، أننظر إليهم بأخوتنا الإسلامية والإنسانية أم ننظر اليهم باستعلاء واستعداء ؟ فالراحمون يرحمهم الرحمن .
هم أناس مثلنا وليس لأحد منا أو منهم فضل على الآخر إلا بالتقوى ، ولم يكن الفقر أو الغنى يوما مقياس للخيرية في الإسلام أبدا ،
هولاء العمال الذين يعيشون بيننا وجآونا من كل أصقاع المعمورة هم أصحاب قلوب كقلوبنا وأرواح كأرواحنا ، يحبون مانحب ويكرهون ما نكره ، يحبون أن يشعروا بأنهم منا وفينا وأن قيمتهم الإنسانية مقدرة ومحترمة فكلنا لادم وادم من تراب .
يقول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم : "إخوانكم خولكم" أي أن من يعمل معكم هم إخوانكم ، لهم مالكم وعليهم ما عليكم ، تلبسونهم مما تلبسون وتطعمونهم مما تطعمون.
التفت إلي يحيى قاطعا علي شرودي وقال بصوت تكاد تخنقه العبرة : أنا أمي ماتت مرتين أمي اللي ولدتني ماتت في بلدي وأمي فاطمة ماتت بالأمس في مكة
فأنا لم أجد هنا في بلدكم أرق وأرحم من قلبها فوالله لو لي حيلة لسافرت لأحضر الصلاة عليها واودعها .
فقلت له : هي في مكة وأنت في الأطاولة ولاتكاد تلتقي بها إلا قليلا ،
قال لي : وهذا القليل لدي كثير ، فعندما تصل بيتها هنا تتغير حالتي فتهتم بي كثيرا تعطيني المال فوق استحقاقي وتعطيني الأكل دون حساب ومنة ، تسأل عني وتهتم بي ولم أسمع منها يوما كلمة تغضبني ، فهي تشعر بمعاناتي في غربتي ، وحاجتي لأهلي فأنا في سن متقدمة لا أطمع إلا في من يقدرني ويرحمني .
ثم واصل حديثه بلهجته : "نعم عيطت وعيطت ياما وياما ، ومن يلومني في العياط على أمي ربنا يرحمها ويحسن اليها" .
هنا توقف يحيى وهو يداري وجهه عني وكأني به يجتهد في إخفاء دمعة سقطت من عينه في تلك اللحظة .
توقفت ونظرت إليه وقلت له : إذا ساعزيك قبل أن أعزي بنيها ، فأحسن الله عزاءك يا أبا سعيد وجبر مصابك ، فأنت إبنها الذي لم تلده ، وما يدريك يا يحيى فلربما كلماتك تلك ودمعتك هذه هي ماتحتاجه الأن ، فهنيئا لها رحمتها بك وحسن تعاملها معك .
نعم هنيئا لك أمنا فاطمة فلعل الله اراد رفع منزلتك برحمتك لضعيفين مرا بحياتك ، فبعد يوسف رحمه الله وهو اصغر أبنائك والذي قدمتيه أمامك في أول شبابه وقلبك يعتصره الالم ، حيث مات أمام عينيك وعيني أبيه رحمكم الله جميعا ، وذلك في حادث مروع على طريق الجنوب ، نعم سبقك يوسف لتعلمي حين تلقينه غدا أن الله ابتلاك حينها بفقده ليس ليحزنك ولكن ليكرمك الان وليكون فلذة كبدك أن شاء الله في استقبالك عند أبواب الجنة وبيده مفتاح بيتك بيت الحمد الذي وعدك به الله عند فقدك يوسف (2) .
وها أنت تتركين خلفك ابنا لم تلديه ، سقطت من عينه دمعة حزن وتحسر عليك نظير مارحمتيه وأحسنت إليه ليكون لك يوسف ويحيى ضمن شهادات عبورك إلى الجنة إن شاء الله ، بل اني لأرى وأستشرف في مماتك حياة قادمة ، ستصب خيراتها في موازينك ، فرحمك الله وجبر كسر ذويك وأعظم أجرهم ووفقهم لما يحب ويرضى .
(1) يحيى حارس ومزارع في بيت محسن بن صالح اليحمد ، الواقع في المحجر على طريق المندق القديم .
(2) قصة حادث يوسف رحمه الله كتبت ضمن قصص بيوت الحمد والتي عرضت قبل أكثر من عشرة أعوام ، وكانت القصة الرابعة عشر وعنوانها آخر العنقود .
رحمهم الله رحمة الأبرار
ردحذف